رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حروب وأوبئة عالمية


بالعودة إلى تاريخ الشعوب مع الحروب ونظرة سريعة إلى تاريخ وآثار الحربين العالميتين، فالحرب الأولى بدأت من الثامن والعشرين من شهر يوليو عام ألف وتسعمائة وأربعة عشر، وانتهت فى الحادى عشر من شهر نوفمبر من العام ألف وتسعمائة وثمانية عشر، وقد وصفت هذه الحرب بأنها نهاية حروب العالم حين شارك فيها سبعون مليون جندى، نعم، شاركت أوروبا وحدها بسبعين مليون محارب فى أكبر حرب عالمية فى التاريخ مع الأمل ألّا تتكرر مستقبلًا تحت أى ظرف من الظروف المستفزة أو اللعب بنيران الحروب أيًا كان مصدرها أو لاعبها، كفى أن نقرأ عن أعداد القتلى فى تلك الحرب، والتى بلغت ما يزيد على تسعة ملايين، وسقط من الجرحى ما يحصى بالملايين أيضًا.
ومع أننا نطمئن فى هذه الأيام ألّا تتكرر حرب عالمية أخرى على هذا النحو، لكن معركة أخرى أشبه بالحروب العالمية، لكن جنودها ليسوا من بنى آدم، لكن مشعل الحرب يسمى كورونا التاسع عشر، وهو يختلف عن الأوبئة القاتلة التى منى بها العالم عبر التاريخ البشرى، مثل الطاعون أو الموت الأسود سيئ السمعة، الذى قضى على عشرات الملايين فى جميع أنحاء العالم، كما تكرر ذلك الوباء أكثر من مرة عبر التاريخ، ففى القرن الرابع عشر قضى الطاعون على نحو ثلث تعداد أوروبا وحدها، حتى وصف ذلك الوباء اللعين بالموت الأسود، لأنه كان يترك بأجساد مرضاه بقعًا سوداء.
أما الجديرى، وهو مرض معدٍ ويصيب البشر من كل الأجناس ومختلف الأعمار، وضحاياه يقدرون بنحو ثلاثين بالمائة من المصابين، كما تعلن منظمة الصحة العالمية، كما أعلنت أيضًا عن أنه تم القضاء على هذا المرض نهائيًا.
وهناك الإنفلونزا الإسبانية، وهى الأكثر فتكًا بالبشرية، وقد ضربت هذه الإنفلونزا معظم أراضى الكرة الأرضية، حتى إنها أصابت نحو ثلثى سكانها، وتركت بصمتها فى التاريخ، وهى تقترب فى مواصفاتها من فيروس كورونا التاسع عشر.
وعودة إلى كورونا التاسع عشر، كما نسميه، فقد عبر البحار والمحيطات، ولم تقف أمامه أى قوات أو حواجز سواء طبيعية أو من صنع البشر.
فبعد أن بدأ هجمته الأولى فى بلاد الصين، انتقل بعد ذلك إلى بلاد العالم كله، ولم يبق أمامه إلا القارة القطبية التى لم يصل إليها حتى الآن، ولكن من يدرى، فقد يطولها بين عشية وضحاها.
ولم يترك هذا الوباء مجالًا من مجالات حياة البشر إلا وقد جثم عليها، فقد تأثرت حياة الناس والمجتمعات، وحتى الدول فى كل المجالات بلا استثناء. فليست الفصول الدراسية وحدها هى التى توقفت، بل امتد أثره على الاقتصاد بشكل عام وعلى بيئة العمل بشكل خاص، حيث العديد من الأعمال والنشاطات الصناعية والتجارية وغيرها الكثير مهددة بالتقلص أو الانهيار، ما تسبب فى فقد عدد ضخم من الناس وظائفهم، وكشفت الهجمة الشرسة لهذا الوباء عن حالة كثير من الدول التى لم يكن يخطر على البال- كونها من الدول القوية الغنية التى تتربع فى مصاف دول العالم الأول- أن يُعاد النظر فى مقدرة حكوماتها على سرعة ردود أفعالها تجاه حالات الطوارئ، فقد أدى تفشى وباء كورونا إلى الكشف عن عدم جاهزية العديد من الحكومات لمواجهة أوبئة مثل كورونا، ما أدى أيضًا إلى انخفاض مستوى رضاء المواطنين، وقد يؤثر ذلك فى دول أخرى كالولايات المتحدة الأمريكية، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية.
ومن إحدى عواقب تفشى هذا الوباء ما نراه حادثًا فى الأسواق المالية، حيث من المتوقع أن تستمر الخسائر إذا استمرت زيادة تفشى الوباء، وهناك مخاوف من أن يترتب على هذه الخسائر المستمرة حالة من الكساد الاقتصادى العالمى، حيث سيقوم المستثمرون بسحب رءوس أموالهم من الاستثمار فى الأسواق المالية لحماية استثماراتهم من التقلبات الاقتصادية غير المتوقعة فى الفترات المقبلة.
وإن كانت الصورة قاتمة، إلا أنه من المؤكد أن البشرية مرت بالعديد من الكوارث المهددة لبقائها، سواء على شكل أزمات مالية عالمية طاحنة، أو حروب أفنت فى طريق دمارها البشر والدول، أو أوبئة كادت أن تطيح بأى بارقة أمل، إلا أن الإنسان يخرج منها لتستعيد الحياة مسارها الأقرب إلى المسار الطبيعى، وبالتأكيد سيؤدى تفشى الوباء الذى نواجهه الآن «كوفيد- ١٩» إلى المزيد من التقدم فى علم الأوبئة ودراسة الفيروسات، وسيحفز العديد من العلماء المبدعين والمبتكرين لإيجاد طرق جديدة للمواجهة والتغلب على هذا الفيروس وغيره.
ومع صلاة الشعوب كلها وابتهالاتها فى كل الأقطار وعلى اختلاف أديانها واتحادها فى تضرعها، فجميعنا منتظرون أن نقرأ أو نستمع إلى خبرٍ يرفع هم هذه الجائحة عن كاهل البشرية جمعاء، ليعلن عن أن جائحة كورونا قد ولت، وآثارها رحلت، وحان الوقت لأن يذهب بناتنا وأبناؤنا إلى صفوف دراستهم أو تأدية امتحاناتهم بعد أن أغلقت فصول دراساتهم زمنًا طويلًا، وإن كنا قد نسينا الكثير منها، ولكن لن ننسى دموعًا قد سكبت على من رحلوا، أو بسمات أنارت الوجوه لمن نجوا، آملين ألا تتكرر هذه الكارثة فى حياة بناتنا وأبنائنا، وقد حان الوقت للعودة للعمل وفصول العلم، كما نقول لأبطال السلام والعلوم- جيشنا الأبيض: «جاء الوقت للعمل وللعلم مع الشكر والتقدير لمن أنقذوا مصائرنا وواسوا مرضانا ومسحوا دموع محزونين بيننا».