رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف وصلنا إلى هذا المنحدر؟


لم أشعر بالألم، ولا أحسست بفداحة الوضع، بقدر ما شعرت بها وأنا أتابع على شاشات التليفزيون الوقائع المخزية لسلوك أهالى قرية «شبرا البهو» بمحافظة الدقهلية، ومنظرهم البائس، وهم يحتشدون عن بكرة أبيهم لكى يواجهوا قوات الشرطة وسيارة الإسعاف ومسئولى المحافظة، الذين يرافقون جثمان الطبيبة الشهيدة «سونيا عبدالعظيم عارف»، التى رحلت إثر إصابتها بفيروس «كورونا» اللعين.
كان هَمّ أهالى القرية، وقضيتهم الأساسية، دون أى تَمَعُّـن فى مضمون هذا الموقف المزرى ودلالاته، ولا التفكُّر فى العار الذى سيظل يلاحقهم ويصم قريتهم على مر الأيام- أن يمنعوا جثمان الشهيدة من أن يرقد آمنًا فى مدافن أسرة زوجها، ابن القرية الطبيب، ولم يشفع لها ولا له هذه الصلة الوثيقة، ولا شفعت لها ولا له أياديهما البيضاء على مرضى القرية ومحتاجيها، وتمادى أهل القرية واستماتوا لتحقيق غرضهم البائس، الذى يعكس هزالًا فكريًا وبؤسًا وجدانيًا غير مسبوقين، ولا يمكن الدفاع عنه أو تبريره، خاصةً أن الأجهزة الطبية المسئولة اتخذت كل الاحتياطات الواجبة، حتى تتجنب أى آثار ضارة لدفن الراحلة الشهيدة وإكرام نهايتها.
وقد يقول قائل إن فلول جماعة الإخوان والقوى المتطرفة أشعلت نيران هذه الواقعة الشنعاء، وانتهزت الفرصة لتوجيه ضربة انتقامية للمجتمع وللدولة، أو لتحقيق مآرب أخرى، وحتى لو كان فى ذلك جانب من الصحة، يبقى السؤال الواجب أن ترتج الأرض ولا تسكن حتى نجد الإجابة الشافية الوافية عنه: حسنًا، ولنفترض صحة وجود هذا التحريض، وهو على الأرجح كان موجودًا.. ما الذى جعل المئات من الرجال الراشدين، والسيدات الراشدات، «وقد شاهدتهن على نفس درجة شراسة الرجال فى مقاومة السلطات»، ينسقن انسياق التابع للمتبوع، والمسوق للسائق، على هذا النحو الكريه، الذى يعكس سقوطًا أخلاقيًا، ولا داعى للتحرّج من وصفه على هذا النحو، أو التماس أى تعلات أو أعذار للتخفيف من وطأته؟!
أظن أن المسألة أبأس محتوًى، وأبعد غورًا، وأسوأ دلالةً، وأشد خطرًا مما يظن أغلبنا، وحتى منهم من رفض هذا السلوك الأخرق وأدانه.
لأن أى مجموعة بشرية من أى مجتمع، إذا فقدت إنسانيتها على هذه الشاكلة، وغابت نخوتها على هذا النحو، وتحرّكت بعقلية القطيع مثلما تحرك كل هؤلاء، للانتقام من جسد فارق الحياة، والتنكيل بروحٍ بريئة بين يدى خالقها، دون أن يخرج من وسطها ولو رجل واحد رشيد، ينهض لكى يصيح فيهم: «أيها البشر، إن كنتم بشرًا حقًا، عار عليكم أن تحرموا من ضحّت بحياتها من أجلكم، وهى بلا حولٍ ولا طول، من حقها فى أن ترقد بسلامٍ فوق حفنة من تراب وطنها، أى مجموعة بشرية تفعل ذلك تكون قد انحدرت إلى مستنقع لا مهرب منه ولا منجاة، وهى مجموعة فاقدة للإنسانية مُفتقدة للمروءة!».
لا يا أيها السادة. المسألة أعمق من ذلك بكثير، وفيروسها أشد خطرًا من فيروس «كورونا» وألعن أثرًا، وهى تعكس بوضوح مدى التغيرات السلبية التى جرت على الشخصية المصرية طوال نصف القرن الفائت، وعلينا أن نتنبه!
إنها تعبير عن بؤس ثقافة المجتمع، بكل طبقاته ونخبه، وعن انحطاط تعليمه، وتدهور وعيه، ورداءة ما يُقدم له من زادٍ فكرى وروحى، وفشل كل الأجهزة التعليمية والتربوية والإعلامية والثقافية والدينية، التى تنفق مئات المليارات كل عام، فى أداء وظيفتها، وإلا فليشرح لنا أى كائن، كيف تسنى لحملة الشهادات العليا، ولمن اعترضوا على منع صلاة الجماعة، حرصًا على أرواح الناس، وخالفوا التعليمات من مخاطر الاحتشاد فصلوا أمام المساجد المغلقة وفوق الأسطح.. كيف تسنى لهم أن يُسوغوا لأنفسهم هذا السلوك البائس، وأن يقبلوه لابن قريتهم المكلوم فى زوجته الراحلة، رغم كل هذه الشهادات، وكل هذه المظاهر؟!
ما حدث أيها السادة يجب أن يُزلزل الأرض تحت أقدامنا، ويُقيم الدنيا ولا يُقعدها، وهو جرس إنذار يدق بقوة علينا أن نتنبه له.
هناك شىء خاطئ، عميق، وكريه، يسرى سريان السم القاتل فى ثقافتنا ووعينا وضمائرنا ووجداننا، أوصلنا إلى هذا المنحدر، ولا يجب أن يهدأ لنا بال دون أن نضع أيدينا عليه، وأن نتحرك سويًا لاجتثاثه من تربة الأرض المصرية الطيبة قبل فوات الأوان!
نعم.. قبل فوات الأوان!