رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من الأدب الرهبانى الحديث «2»


نستكمل رواية «أبونا أنسطاسى» التى بدأتها فى الحلقة السابقة:
عُرف أنه كان يعيش قديمًا على القشور وقشور المعرفة السطحية، وعندما كانت تضغطه الرغبة فى القراءة كان يذهب فى الظلام إلى الكنيسة ويقرأ قليلًا فى هدوء ويرجع. وعاش أبونا أنسطاسى حياة عزلة كاملة وصمت. لم يكن يزور أحدًا طبعًا ولم يكن أحد يزوره، وطبعًا عاش فى صمت كامل لا يتحدث إلى أحد.
فى إحدى المرات كان بعض الرهبان يتكلمون خارج الطافوس، وكان يسمع أصواتهم ولا يعلق بشىء، هل المعلومات التى يقولونها صحيحة أم خاطئة؟ هل هى كاملة أم ناقصة؟ ليس له أن يتدخل، ما شأنه، إنه ميت.
وفى مرة أخرى سمع رهبانًا خارج الطافوس يتحدثون فى أخبار الآباء الأولين ثم ورد اسمه على ألسنتهم، وذكره البعض بالخير وانتقده آخرون، أما هو فصامت لا يشكر المادح ولا يجادل المنتقد، إنه ميت.
وفى ذات مرة مرض أبونا أنسطاسى وطبعًا لم يزره طبيب ولم يأخذ دواءً ولا أى نوع من العلاج ولا تغذية ولا تقوية. احتمل فى هدوء وفى صمت حتى كلمة العزاء لم تصل إليه. وإذ لم يفتقده أحد بل كان أحيانًا لا يستطيع حتى مجرد التأوه عندما يحس بأن أحدًا خارج الطافوس وظل هكذا حتى شُفى.
وفى إحدى المرات وهو يمشى ليلًا رآه راهبان فصاح أحدهما وهرب أما الآخر فظنه أحد السواح أو أحد القديسين القدامى فتقدم إليه وركع وطلب أن يباركه فلم يجادل وإنما أطاع ووضع يده عليه وباركه ومضى مسرعًا نحو الطافوس. وأُشيع فى الدير أن قديسًا ظهر لأحد الرهبان، واعتكف أبونا أنسطاسى جملة أيام لا يخرج إطلاقًا لم يأكل فيها ولم يشرب.
عاش أبونا أنسطاسى بعيدًا بالكلية عن العالم وأهله. كان فى ذلك الزمان يكتب رسائل لكثيرين وتصله الرسائل منهم، أما الآن فإنه ميت. وهكذا بعُد عن الخطابات وأيضًا عن المجلات والجرائد وعن الأخبار عمومًا لا تصله أخبار العالم ولا أخبار الكنيسة ولا حتى أخبار الدير. وبمرور الوقت بدأ ينسى الأخبار القديمة أيضًا.
كان قديمًا يشعر بأن الدير محتاج إليه وأنه عمود من أعمدة الدير، شخص مهم يقوم بمسئوليات عديدة، أما الآن فعرف أن الدير ما زال ديرًا دونه، وكذلك الكنيسة تخلو فيها أحيانًا بعض المناصب والمسئوليات فلا يرشحه أحد لشىء منها، إنه ميت، وهو أيضًا لا يفكر فى هذه الأمور ولا يعلم بها، وإذ لم يكن له ما يشغله سوى الله، عاش حياة الصلاة الدائمة فى ذلك الزمان. قبل موته كان يقضى ليالى كثيرة فى القراءة والكتابة والترجمة والتأليف وفى النساخة وفى أمور خارجة عن نفسه، أما الآن فإنه لا يستطيع أن يقرأ أو يكتب بالليل إذ لا توجد كتب ولا إضاءة، فأصبح يقضى الليل كله فى الصلاة وتذكر قول مار إسحق السريانى: «الليل مفروز لعمل الصلاة»، وكان يعمل فيه أيضًا أعماله الضرورية فى الدير.
ونما فى الصلاة كثيرًا حتى تحوّلت حياته إلى صلاة، لم يعد فى عقله إلا الله، وبمرور الوقت نُسيت التذكارات القديمة إذ ليس شىء جديد عالمى يُضاف إليه وذكرياته واهتماماته، وهكذا زالت الطياشة من صلاته، وبدأ يصل إلى نقاوة القلب ونقاوة الفكر وإلى الانحلال من الكل والارتباط بالواحد.
تنقى من الأفكار الخاطئة ولكن فكرًا واحدًا ظل يحاربه، قال لنفسه: هأنذا قد عرفت الرهبنة الحقيقية ومارست الموت الكلى عن العالم والاتصال الكامل بالله، فماذا يمنع أن أظهر للدير وأحيا هكذا؟ شجعه على هذا الفكر طول المدة التى قضاها فى الطافوس بحيث نسيه الناس. كثير من زملائه القدامى رآهم يُدفنون معه فى الطافوس وغالبية رهبان الدير الآن من الجدد الذين لم يعاشروه، والباقون من زملائه قليلون، ولا يتوقعون رؤيته وإن رأوه لا يتعرفون عليه، فقد تغيّرت هيئته من فِعل الشيخوخة ومن النسك.
وحاول أبونا أنسطاسى أن يطرد هذا الفكر ويقول لنفسه: وما جدوى أن يرانى الناس، لقد كنت أشتهى فى ذلك الزمان أن أحيا وحيدًا وبعيدًا عن الناس متفرغًا لله وحده وها أنا قد فعلت ما أريد فلماذا أفكر فى تغيير حالتى؟ ثم تعود الأفكار تحاربه، قائلة: إنك فعلت هذا مضطرًا وما أجمل أن تفعله بإرادتك، ومرت عليه فترة طويلة فى مقاتلة الأفكار.
وأخيرًا جاءت ليلة خطيرة جدًا فى حياته، وفى تلك الليلة اشتدت عليه الأفكار جدًا فركع أبونا أنسطاسى وسكب نفسه أمام الله فى حرارة شديدة، وقال: «مبارك أنت يا رب فى جميع إحساناتك إلىّ، أنت يا رب شفوق وحنون علىّ جدًا وقد عاملتنى بما لا أستحق ووهبتنى هذه الحياة المنعزلة، حللتنى من الكل وربطتنى بك، غير أنى أشعر بأننى عشت فى هذا الطقس مضطرًا، أريد أن أحيا فيه بإرادتى من أجل حبك، إنها فكرة أو إنها شهوة قد تكون جيدة وقد تكون رديئة.. ولكنى على أى الحالات أعرضها عليك لأننى لا أستطيع أن أخفى عنك شيئًا ولتكن إرادتك».
وأحنى أبونا أنسطاسى رأسه وبكى ولم يسمع أحد صوته ولكن السماء سمعت فتقدم واحد من الأربعة والعشرين قسيسًا للجلوس حول عرش الله وأخذ هذه الصلاة فى مجمرته الذهبية وصعد بها إلى فوق ونام أبونا أنسطاسى والدمع يبلل لحيته البيضاء، إنه لا يدرى كم مر عليه من الوقت وهو نائم أهى ساعة أم دهر؟ كل ما يدريه أن جرسًا دق دقات عنيفة وفتح أبونا أنسطاسى عينيه واندهش جدًا، وقال فى نفسه: ما هذا الذى أراه؟ ودارت رأسه فنام ثم استيقظ على صوت جرس آخر لعله جرس «صلاة باكر» ففتح عينيه وإذ هو أمام المنظر الأول فاندهش وزاد تعجبه: وجد أمامه نافذة مفتوحة ونور القمر يدخل المكان ويضيئه كله ونظر إلى ذاته فوجد أنه يلبس رداءً أسود وتأمل المنظر حوله فوجده يشبه تلك القلاية التى كان يعيش فيها فى ذلك الزمان فوضع يديه على رأسه وأخذ يفكر وأخيرًا عرف السر. هل كان ما حدث له حلمًا أم رؤيا أم درسًا فى الرهبنة؟ ليس يدرى ولكنه أدرك الهدف منه ومنذ ذلك الحين تغيّرت حياته كلية.
بدأ حياة الوحدة والنسك التى تعودها خلال «عشرات السنوات»، وأخذ يمارس الصلاة الدائمة كما كان يمارسها فى الطافوس وعندما كانت الضرورة تدعوه للخروج من قلايته لعمل خاص بالمجمع، كان يسير فى هدوء ولا يلتفت يمنة ولا يسرة، وكان الرهبان يميزونه بصمته وبجسمه النحيل وأدبه الغزير وتواضعه وبرأسه المنكس إلى الأرض، وكان بين الحين والحين يرفع رأسه قليلًا ويهزها هزة بسيطة لكى ينفض عن عينيه قطرات من الدموع تمنعه من رؤية ما هو قدام.
وهنا انتهت الرواية التى سجلها يومًا الشاب «نظير جيد»، الذى صار فيما بعد البابا شنودة الثالث- قدس الله روحه الطيبة- التى من خلالها سجل بعض الحقائق عن الراهب الحقيقى «سواء كان راهبًا فى الدير أم أسقفًا أم مطرانًا».
الراهب ميت فى نظر الناس، الراهب من المُفترض أنه ترك تنعُمات العالم وعليه أن يحيا كميت، الراهب ينبغى ألا يحتفظ بأشياء كثيرة فى قلايته، الراهب يحيا فى الفقر الاختيارى الذى نذره لنفسه يوم رسامته راهبًا وأن يحيا فى فضية التجرد، الراهب يحيا فى عزلة كاملة وصمت، الراهب يبعد عن فكره مدى أهميته فى الدير ولا يسعى نحو المناصب الشاغرة فى الكنيسة لأنه ميت فى قرارة نفسه، الراهب كل ما يشغله هو حياة الصلاة الدائمة، الراهب عليه أن يحيا فى الدير كما هو الميت فى «الطافوس»، تلك هى حياة الراهب الحقيقية حيث لا يريد شيئًا ولا يقتنى شيئًا. من له أذنان للسمع فليسمع.