رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أخرج قليلًا من حصار «الفيروس» وأتنفس نسمات عادل خيرى المنعشة المبدعة


قبل أى شىء، هل تقبل اعتذارى لأننى نسيت ذكرى رحيلك التى تهل كل عام فى ١٢ مارس لمدة شهر بأكمله؟. لم أنس باختيارى. بل إننى لم أنس، إن أردت الدقة والصدق والتحديد، فقط انشغلت بأمور أتفه منك بكثير، التى انشغل بها العالم كله منذ نهاية شهر فبراير ٢٠٢٠ وما زال منشغلًا بها حتى الآن. وأقصد الفيروس الفتاك الذى أوقف كل الأشياء، وأنسانا الأحباب الذين رحلوا مثلك أنت. فهل تقبل اعتذارى؟
حينما أرتب العواطف الإنسانية أضع «الوفاء» فى الدرجة الأولى. ولذلك لن أغفر لنفسى أننى أحببت رجلًا منحنى البهجة الوقورة ولحظات لا تعد من السعادة والطاقة المتناغمة مع الكون ولم أكتب عنه كلمة وفاء.
لكننى أطمع فى قلبه الكبير الذى يسامحنى ويقدر ظروفى، مع أننى لا أرى كيف يمكن لأى ظروف أن تنسى الإنسان أهم واجبات الحياة؟
أرجع وأقول إن لكل كتابة أوانها، فالكلمات تحدد التوقيت المناسب للتدفق على الورق، تختار متى تخرج من قلبى إلى الحياة.
آن الأوان لأكتب عن فنان من طراز فاخر جدًا ومن قماشة نادرة جدًا، فنان تتغاضى عنه ذاكرة الوطن التى لا تتذكر إلا أنصاف الموهوبين وتنابلة الإبداع والمقلدين.
آن الأوان لأكتب عن فنان تفخر خشبة المسرح بأنه يومًا وقف عليها ومنحها عصارة موهبته وعنفوان شبابه.
آن الأوان أن أطلق سراحى من سجن «كورونا» وأتكلم قليلًا عن رجل أحبه، فنان رأت الحياة أنه «كثير» علينا و«خسارة» فينا، فانتزعته مبكرًَا وخطفته قبل الأوان، حتى ندرك قيمته وأهميته.
فنان حتى لم نجامله إكرامًا لأبيه الذى هو بحد ذاته ظاهرة فنية متعددة المواهب متنوعة الثراء لا تحظى بالتقدير الواجب.
آن الأوان لكى تتعطر الصفحات استعدادًا لاستضافته واحتفاءً بسيرته. آن الأوان لأكتب عن عادل خيرى، ٢٥ ديسمبر ١٩٣١- ١٢ مارس ١٩٦٣.
مثل كل عام تمر ذكرى رحيله مرورًا عابرًا.
أين يذهب عادل خيرى وسط هيافات وتفاهات وتكرارات البرامج الإعلامية؟
أين يذهب وسط المسرحيات، التى هى بؤر علنية للنكات ثقيلة الدم والإفيهات المستهلكة والألفاظ البذيئة وضحالة الفكر وتشوه المشاعر؟ أين يذهب وسط تهديدات كورونا؟
عادل خيرى مات وهو فى سن الواحدة والثلاثين. ولم يبدأ التفرغ للمسرح إلا وهو فى الرابعة والعشرين من العمر فى ١٩٥٦.
سبع سنوات فقط هى عمره الفنى. ولكنه ترك لنا ميراثًا من الضحك المُحمّل بالشجن، وفنًا يسعد الروح ويشبع العقل ويحرك القلب.
عادل خيرى ذو الكاريزما الهادئة التى تتسلل إلى نفوسنا بنعومة لا تفقد قوتها ولا تتوه عن هدفها.
وماذا كان هدفه؟
واجه عادل خيرى المأزق الصعب، هو يريد إشباع موهبته وفى الوقت نفسه يريد أن يعيد مسرح نجيب الريحانى، ٢١ يناير ١٨٨٩- ٨ يونيو ١٩٤٩، ذلك المسرح الذى عشقه وآمن برسالته التى تبناها الريحانى، مع أبيه، بديع خيرى، ١٧ أغسطس ١٨٩٣- ١ فبراير ١٩٦٦، واهتدى إلى صيغة فنية تحقق الهدفين. فقرر أن يعيد مسرحيات الريحانى برؤية عادل خيرى، وفكاهة عادل خيرى، وشخصية عادل خيرى، وزمن عادل خيرى، واستعان بعدد كبير من العظماء، تلامذة الريحانى فى المسرح أو فى السينما.
كان عادل شديد الوفاء لموهبته الخاصة، وهذا ما جعله قادرًا على الوفاء لمسرح الريحانى. المسرح الذى تزعم تأسيس نهضة مسرحية قوامها الثنائى الريحانى، وخيرى الأب، منذ ١٩١٩ وحتى ١٩٤٩، والتى تعمل على إيقاظ الضمير الوطنى، والثورة على الظلم الاجتماعى، من خلال الكوميديا الراقية والنقد الساخر.
وُلد خيرى الابن فى هذا المناخ ورأى فى صباه الريحانى على خشبة المسرح وعاهد نفسه على أن يحمل الرسالة ويسير على الدرب.
آمن عادل خيرى أن للضحك فلسفة عميقة وإن كانت فى منتهى البساطة، وهى أن الإنسان يحتاج إلى الضحك، تمامًا مثلما يحتاج إلى التعليم والعمل والماء والهواء والحب والطعام والمسكن والدواء. وبالتالى علينا حمايته من التلوث والتدهور كما نحمى تلك الأشياء الأخرى.
إن السخرية ليست قلة الأدب، لكنها «شياكة» تعرية القبح. والكوميديا ليست حركات بهلوانية أو حواديت مفتعلة للتسلية وقتل الوقت، لكنها الدخول التلقائى غير المفتعل إلى عمق التناقضات الاجتماعية والأخلاقية التى تملأ حياتنا. وكشف حقائق ومكنونات النفس دون فذلكة. هو يتساءل أسئلة الأحلام البسيطة العفوية التى تدين القيم التى تتحكم فى حياتنا ومصائرنا.
من هذا المنطلق فإن عادل خيرى يضحكنا، لأنه فى الحقيقة لم يكن يقصد أن يضحكنا. يضحكنا لأنه فى الحقيقة يثير البكاء. أو كما عبّر أحد الفلاسفة: «إننى أضحك لأمنع نفسى من البكاء».
بعد انتهاء العرض المسرحى كان عادل خيرى يقف مع المشاركات والمشاركين فى صف واحد ينحنون لاستقبال تحية الجمهور. لا أحد أقل من الآخر. ربما، بالطبع، تتفاوت أحجام الأدوار. هناك دور أقل من دور. لكن لا يوجد فنان أقل من الآخر. كلهم فى الموهبة وفى الإبداع وفى إسعاد الجمهور، سواء. ما أجمل أن نرى الريحانية المخضرمة مارى منيب جنبًا إلى جنب مع عادل خيرى، الشاب الريحانى الجديد، بجانب ميمى شكيب وعدلى كاسب وسعاد حسين وعباس فارس ونجوى سالم وغيرهم من القافلة الريحانية، عبر أجيال متباينة، ينحنون معًا لتحية الجمهور. وهذه، فى حد ذاتها قيمة أخلاقية كبرى لمن يريد أن يتعلم ويتعظ ويرتقى.
فى كل مرة أشاهد إحدى مسرحياته أشعر كأنها المرة الأولى. هو ليس الممثل الذى رأيته من قبل. هو يُولد من جديد ويُدهشنا من جديد. لماذا؟
لأن عادل خيرى يحب الفن من أجل الفن. وطاقة الحب لا تنضب مع الزمن. هى قادرة على أن تجذبنا وتأسرنا وتحيرنا وتلمس طاقة الحب داخلنا، ولذلك نصف الإبداع العظيم بأنه «خالد».
وهكذا الخلود، مثلًا، لموسيقى سيد درويش، ١٧ مارس ١٨٩٢- ١٥ سبتمبر ١٩٢٣، الذى يشبه عادل خيرى فى ثلاثة أمور. أولًا: كلاهما رحل عن الدنيا فى سن الواحدة والثلاثين. ثانيًا: إن العمر الفنى لكليهما كان سبع سنوات فقط. ثالثًا: إنه رغم قصر العمر الفنى، فإن كلًا منهما ترك ميراثًا غزيرًا من الكنوز الإبداعية.
ولأن الشىء بالشىء يذكر، فقد ارتبط سيد درويش بالأب بديع خيرى، حيث كانت أغانى أوبريت «العشرة الطيبة» من نظم بديع خيرى وموسيقى سيد درويش التى استخدم فيها لأول مرة الغناء البولوفونى، أى تعدد الأصوات وحتى ترى النور فقد أسس الريحانى من أجلها فرقة مسرحية خاصة وتولى إخراجها عزيز عيد.
عاش عادل خيرى ومات متواضعًا مثل كل العظماء. رحل بعد أن أنهكه المرض واضطراره إلى أن يفارق خشبة المسرح وهو فى ريعان الشباب.
أما بديع خيرى، الأب، فقد شعر بغدر الزمان وجحود الناس، وكان أيضًا يعانى من المرض، لم يحتمل الوضع ورحل بعد ابنه بثلاث سنوات.
لماذا دائمًا فى كل زمان ومكان تقسو الحياة على من تجرى فى دمائهم «جينات» الإبداع الأصيل الذى بدونه تظل الحياة نفسها واقفة، راكدة، لا تتجدد، لا تتقدم؟.. سؤال محير ومؤلم.