رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فضيحة تركية إسرائيلية


الفضيحة هى انكشاف المعايب أو ما ينكشف من انحراف ويجلب العار. والمقصود، فى العنوان، ليس فقط فضيحة إرسال أنقرة معدات ومستلزمات طبية إلى تل أبيب، ولكن، أيضًا، محاولة الطرفين التعتيم عليها، ثم زعمهما بأنها لم تتم، بعد انكشافها أو افتضاحها.
فضَحَ، يَفضَح، فَضْحًا، فهو فاضِح، والمفعول مَفْضوح. وهذا بالضبط هو ما فعلته وكالة «بلومبرج»، الخميس الماضى، بكشفها عن قيام تركيا بإرسال إمدادات طبية إلى تل أبيب، لمساعدتها فى تخطى أزمة فيروس «كورونا المستجد». ومع أن وقائع عديدة سابقة أثبتت أن العلاقات التركية الإسرائيلية توجب على الطرفين أن يساعد أحدهما الآخر، إلا أن البعض أبدى دهشته، سخريته أو استنكاره، ونشطت غُدَّة التبرير، ومشيّها تبرير، لدى غلمان وعملاء أحمق تركيا المفضوح، بينما التزمت الحكومة التركية ووسائل إعلامها الصمت، ولم تورد إلا أكاذيب وزير الصحة فى مؤتمر صحفى عقده يوم الجمعة، أشار فيها إلى أن كثيرًا من الدول طلبت من أنقرة تقديم المساعدة، وأن لديهم طلبًا إسرائيليًا مماثلًا، لكنه ما زال قيد الدراسة.
بعد انكشاف الصفقة أو افتضاحها، أراد الطرفان استغلالها سياسيًا، بأن زعمت وسائل إعلام تركية أن مكتب الرئيس التركى، رجب طيب أردوغان، اشترط لإتمام الصفقة إرسال كميات من المعدات الطبية إلى الفلسطينيين، وحين رفضت السلطات الإسرائيلية تم التراجع عن إرسال المعدات. وبالمثل، زعمت وسائل إعلام إسرائيلية أن مكتب بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلى، هو الذى قرر تجميد الصفقة بعد أن اشترطت أنقرة دخول مساعدات مشابهة إلى قطاع غزة. بينما كانت الطائرات الإسرائيلية التى هبطت، يوم الخميس، فى قاعدة إنجرليك الجوية جنوبى تركيا، قد حملت الشحنة بالفعل ونقلتها، وتم توزيعها على عدة مستشفيات إسرائيلية، من بينها مستشفى «شعارى تسيدق» بمدينة القدس المحتلة!.
الثابت هو أن المخابرات الإسرائيلية هى التى تتولى عقد صفقات المعدات الطبية. والثابت أيضًا هو أن تركيا امتنعت عن توريد معدات ومستلزمات طبية إلى دول دفعت ثمنها بالفعل. وعلى سبيل المثال، لا الحصر طبعًا، ذكرت تقارير نشرتها جريدتا «كورييرى ديلا سيرا» الإيطالية، و«بلوير» البلجيكية، أن شحنات الكمامات التى دفعت الدولتان ثمنها لتركيا، لم تصل. وقبل أن تعتقد أن الموضوع يخص شركات تركية خاصة، وأن النظام التركى لا علاقة له بهذا الانحطاط، نوضّح أن جريدة «حريت» التركية ذكرت أن سليمان صويلو، وزير الداخلية، هدد الشركات والمصانع بأن السلطات ستسيطر عليها إذا لم تقم ببيع كل إنتاجها لوزارة الصحة فقط.
الأزمة المزدوجة، الاقتصادية والصحية، التى تواجهها تركيا، كما أوضحنا فى مقال سابق، أخرجت أسوأ ما فى النظام التركى، وجعلته يضيف عددًا جديدًا من الجرائم إلى سجله الحافل. وكانت جريدة «تايمز أوف مالطا» قد اتهمت تركيا بالسطو على شحنة مكونة من ٥٠ ألف بدلة طبية كانت متجهة إلى مالطا. وطبقًا لما ذكرته الجريدة، فإن تلك ليست حالة السطو التركى الأولى على إمدادات طبية. كما سبق أن أعلنت وزارة الخارجية الإسبانية عن قيام السلطات التركية بالاستيلاء على شحنة أجهزة تنفس صناعى كانت فى طريقها من الصين إلى إسبانيا.
خدعوك فقالوا إن العلاقات بين البلدين تدهورت سنة ٢٠١٠ عندما داهمت قوات كوماندوز إسرائيلية أسطولًا تركيا للإغاثة الإنسانية كان متجهًا إلى قطاع غزة، وقتلت عشرات الأتراك، بينما قال الواقع إن العلاقات الاقتصادية والعسكرية ظلت مستمرة وكان التبادل التجارى التركى الإسرائيلى يتضاعف. كما تضاعف، أيضًا، سنة ٢٠١٧، سنة خطابات أردوغان «النارية» ضد الاعتراف الأمريكى بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال. ولاحقًا، اتضح أن مبنى السفارة الأمريكية فى القدس المحتلة قامت بتصميمه وستتولى تنفيذه شركة يملكها رجل الأعمال التركى نهاد أوزدمير، وثيق الصلة بأردوغان، وبحزب العدالة والتنمية الحاكم.
الأهم من ذلك، هو أنه عقب الزلزال الذى ضرب تركيا فى أكتوبر ٢٠١١ وأسفر عن مقتل أكثر من ٤٠٠ وإصابة حوالى ١٣٠٠ آخرين، أقامت إسرائيل جسرًا جويًا لنقل مساعدات لتركيا، بناء على طلب من أنقرة. ووقتها، تطوع عملاء وغلمان، كهؤلاء الذين تراهم الآن، وزعموا أن تركيا رفضت مساعدات إسرائيلية، فاضطر بولنت أرينج، نائب رئيس الوزراء التركى، إلى نفى هذه المزاعم ووصفها بأنها «شائعات قبيحة»، بعد أن أعلنت الخارجية الإسرائيلية أن أنقرة هى التى طلبت تلك المساعدات عن طريق السفارة الإسرائيلية، عقب اتصال تليفونى بين أردوغان، الذى كان رئيسًا لوزراء تركيا وقتها، ونظيره الإسرائيلى، الذى كان هو نفسه بنيامين نتنياهو.
.. وأخيرًا، ثبت، مرارًا وتكرارًا، أن أردوغان وأتباعه وغلمانه، وجماعة الإخوان وتفريعاتها، لا تعنيهم القضية الفلسطينية، أو أى قضية غير قضيتهم أو مشروعهم، لكنهم يعرفون جيدًا كيف يلعبون بعقول البسطاء، البلهاء، والطيبين، وكيف يؤلفون قلوب وجيوب المتثاقفين والمتثورجين، لتبرير جرائمهم واستقبال أكاذيبهم بالزغاريد الزاعقة، التصفيق الحاد، والإيقاع الراقص.