رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«كورونا» والعولمة أو عولمة «كورونا»


عرف المصريون كورونا منذ سنين بوصفه نوعًا من الشيكولاتة اعتاد على تناوله أبناء جيلى والجيل الذى سبقنى، فى حين يعتبر الجيل الحالى «جيل العولمة» ذلك النوع من الحلوى شيئًا دون المستوى لا يرقى لذائقتهم العالمية الحديثة، التى تتيح لهم شتى أنواع حلوى الشيكولاتة المحرومين منها الآن بسبب الفيروس والوباء القاتل!
شيكولاتة «كورونا» كانت قبل فيروس كورونا هى حلوى الفقراء ومحدودى الدخل، وأمثالى من أصحاب النوستالجيا والحنين الساذج حتى تعرَّف جيل العولمة مؤخرًا على كورونا عصره الحديث على هيئة فيروس ووباء قاتل، وهكذا تعرف أخيرًا جيل العولمة على كورونا وعرفه.. تعرف عليه وجاءه ليبيده ويبيد معه الجميع.. لم يفرق كورونا العولمة بين غنى وفقير.. بين شهير ومغمور.. بين مسئول ومهمش.
طال كورونا الجميع، وصار الأمر والمصير متروكًا فى نهاية المطاف لصاحب الأمر، وأصبحت نظرية الانتخاب الطبيعى- نظرية العصر الحديث- التى تسير الآن جنبًا إلى جنب مع نظرية التطور، هى المتحكمة الآن فى مصائر البشر!
وكما طال التطور حيواتنا طال الفيروسات، فتطورت وتعقدت كما تعقدت حيواتنا- أو بعبارة أدق- بعد أن عقدنا حيواتنا بتكنولوجيا وأسلحة دمار شامل وحروب بيولوجية وقنابل عنقودية وذرية، فجاءنا الدمار الشامل هذه المرة على هيئة وباء.
الأوبئة عرفها الإنسان، بل وتسبب فيها الإنسان وصارت تلازمه وتتطور معه وتواكبه كلما عقّد هو حياته وأثقلها بما يضر ولا ينفع.
فمن الطاعون للكوليرا لكورونا يموت أناس ويسعد آخرون!
يقول هذا إنها سنن التطور وقوانين الصيرورة.. هكذا هى الحياة!
ويقول ذاك: ما دايم إلا وجه الله.. فلكل أجل كتاب.. ويقول آخر استعدوا لفراق أحبائكم! هكذا وبمنتهى البساطة والأريحية المتبجحة، فطاله الوباء القاتل! ونسمع من قريب أو من بعيد من يقول لنا «إنك ميت وإنهم ميتون»!
وربما يسخر أو يسعد أحدهم مرددًا ما ردده من قبل شاعر الشعب الراحل أحمد فؤاد وكلمات قصيدته التى يقول بعض أبياتها «وإيه يعنى لما يموت مليون أو كل الكون العمر أصلًا مش مضمون والناس أعمار»!
هكذا يتحدث الطغاة، سياستهم فى القتل الرحيم لإنقاذ الكوكب بتصفية نصفه ليبقى نصفه الآخر يرزح تحت نير الديون والقروض وسياسات الإفقار التى يعشقها هؤلاء.. طرح غير مستبعد عند كثيرين، ويستند فيه هؤلاء إلى نظرية الانتخاب الطبيعى وما هى إلا وقاحة وحقارة.. وتصبح ثقافة العولمة الملعونة والسياسات الإمبربالية والنيوليبرالية التى لا تنظر إلا للأرباح والأصفار التى تضاف للأرصدة هى المتحكم فى حيوات الناس.
فالأصفار والأرصدة لدى هؤلاء أهم وبكثير من الإنسان.. يظن هؤلاء أنهم سيعيشون على هذا الكوكب وحدهم.. لكنهم سيموتون كما يموت الناس.. وربما يسمحون أو يرضون بترك البعض- ممن قدر لهم البقاء بمعجزة اتكاء على نظرية الانتخاب الطبيعى- ليستهلكوا بضائعهم ويشتروا أسلحتهم وأجهزتهم التكنولوجية التى تصدر لنا ومعها دومًا كل جديد من تلك الشرور التى تتنوع وتتعدد أشكالها.. وظهرت هذه المرة على هيئة فيروس قاتل! سيسخر الكثيرون من ذلك الطرح ويتساءلون عن علاقة التكنولوجيا بالوباء.
فالتكنولوجيا فيها الجانب الحسن، ولكن من خلالها أيضًا سيقت لنا شتى أنواع الشرور.. لقد جاءت التكنولوجيا بالخير وجاءت أيضًا بالشر.. ومع العولمة ظهرت الحروب الإلكترونية وحروب الأجيال المتعاقبة.. الجيل الثالث والرابع والخامس.. ودُمر الكوكب ولُوث بشتى أنواع الملوثات، فظهرت أوبئة جديدة تتطور دومًا مع تطور وتعقد حيواتنا وما نضيفه إليها من جديد كل يوم.
هنيئًا لجيل العولمة بجيل الحروب وبفيروس كورونا المستجد، ومن غير المستبعد أن نسمع كل عام عن فيروس جديد ووباء جديد يأتينا دومًا مصاحبًا لكل حرب جديدة تأتينا دومًا فى حلة وعلبة جديدة أنيقة تحمل اختراعًا جديدًا نظنه سيريح حياتنا، فى حين أنه يتخمها ويعقدها ويوبئها كلما أوهمنا أنه سيسهلها علينا كى يسعدنا فيشقينا!
ما صرنا نملكه اليوم.. صار هو ما يملكنا، وكما ملكنا الجديد بين أيدينا ملكنا معه الوباء والفيروس القاتل!
كل جديد يصدر إلينا ونظنه خيرًا يصاحبه عادة جديد لا نعرف عنه شيئًا وقد يكون هو عين الشر.
هل ما سبق يهدف لتقديم طرح أصولى يحتفى بالقديم البالى ويريد العودة بنا لركوب البغال والحمير وفيه نبذ لكل جديد وكراهية مجانية له؟
بالطبع لا.
ما أرمى إليه هو أنسنة التكنولوجيا، وأنسنة كل جديد، والكف عن اعتبار البشر وحيواتهم مجرد آلات أو لعب نعبث بها من خلف أجهزتنا الحديثة كى ننتصر للذكاء الاصطناعى!
فمنذ التفكير فى فكرة الإنسان الآلى الذى سيسهل لنا حيواتنا ماتت فكرة الإنسان ومات معها الكثير من معانى الإنسانية.. نريد تكنولوجيا صديقة للإنسان والحيوان وكل الكائنات الحية.. لا نريد تكنولوجيا وثقافة عولمية تبيدنا وتستبدل الإنسان بالآلة، وتعلى من شأن الآلة على العنصر البشرى! ويفخر المخترعون ويتنبأون لنا بتناول الكبسولات الغذائية بدلًا من الأطعمة، لأنهم يريدون المزيد من اليسر لنا بخلق المزيد من الاختراعات والاكتشافات والسعى لغزو الفضاء وخلق حروب فى فضائه لخلق مواطئ لأقدام جديدة على سطحه أو أسطح الكواكب الأخرى.
فليفعلوا ما يريدون بالكواكب والمجرات الأخرى وليخترقوا السماوات ما شاءوا وليحاربوا بعضهم البعض على سطح القمر وليغزوا الفضاء.. ولكن نرجوهم فقط أن يتركوا من سيبقى على قيد الحياة- بعد انتخابها الطبيعى لهم- أن يحيوا حياتهم الطبيعية على سطح الأرض ويتنفسوا هواءها ويأكلوا عشبها غير المسرطن!
لكم الكبسولات.. تجرعوها بدلًا من الأطمعة.
ولكم الفضاء والحروب بشتى أنواعها وأسمائها.
ولنا أرض وأناس يعيشون عليها.
كفوا أياديكم عنا وعن سطح الأرض.
تفرغوا لغزو الفضاء وانقلوا حروبكم لسطحه وسنكتفى نحن بنوره- إن بقى له نور- وسنكتفى بالأرض التى نسير عليها والعشب الذى ينبت فيها دون موادكم المسرطنة التى أمتم بها أحباءنا.. فلسنا على استعداد لفراق المزيد من أحبائنا أيها الساسة، وسنسعد جدًا إن فارقتمونا أنتم وأخذتم معكم عولمتكم- حتى وإن تركتم لنا كورونا على سطح الأرض- فلعله يعود إلينا مرة أخرى على هيئة شيكولاتة كما كانت فى سابق عهدها.. غير البعيد.