رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الدستور» تنشر فصلًا من رواية «لعنة ميت رهينة» لـ سهير المصادفة

لعنة ميت رهينة
لعنة ميت رهينة

حصلت "الدستور" على فصل من رواية "لعنة ميت رهينة" للروائية الدكتورة سهير المصادفة، وهي الرواية الخامسة في مسيرتها الروائية والتي صدرت عن الدار المصرية اللبنانية.

الفصل يحمل اسم "عبد الجبار".. وجاء كالتالي:

سافر عبد الجبَّار إلى بور سعيد، فلقد أخبره أحد الرجال في بوظة "السكري" ذات ليلة أنها تحولت منذ أيام إلى منطقة حرة، وعندما سأله ماذا تعني "منطقة حرة؟!" ضحك وهو يجيبه بأنه يمكنه شراء كل شيء منها حتى لبن العصفور.

صحيحٌ أن عبد الجبَّار غاب أسبوعين كاملين ولكنه عاد مع نهايتهما بكل ما طلبه أدهم وأكثر، بل وجد طريقًا ظل يبحث عنه طويلًا، أصبح "تاجر شنطة" ميت رهينة يجلب لسكان القرية كل ما يحتاجون إليه من غرائب السلع. هو أوَّل مَن أدخل إلى القرية الراديو الترانزستور بدلًا من الراديو الفيلبيس الخشبي الضخم الذي كان يحتل نصف رفٍّ في دكان السكري أعلى أرفف الشاي والسكر وفحم الجوزة التي كان يبيعها لأهل القرية صباحًا، ويُجلس رواده على دكتين خشبيتين مظللتين بسعف النخيل فيما يُشبه المقهى ليستمعوا عبر أثيره إلى حفلات أم كلثوم ومسلسل الخامسة مساء والصور الغنائية وحكاية أبو زيد الهلالي أو حكاية عزيزة ويونس، ثم مع دخول الليل يحوله إلى بوظة للسكارى.

جلب عبد الجبَّار لنساء ميت رهينة الكومبليزيونات اللامعة الرقيقة التي كان سمكها مثل سمك ورقة السيجارة بدلًا من قمصانهن المصنوعة من البفتة البيضاء وتيل نادية، أو المصنوعة من الساتان واللاميه اللامع ورمش العين لبنات الأكابر في القرية. جلب لأهل القرية التفاح الأمريكاني فتعرفوا إليه للمرة الأولى، وبذور فواكه سيزرعها بنفسه فيما بعد، وعلبًا من اللبان الملون المسكر بنكهة كل الفواكه، هم الذين كانوا لا يلوكون إلا اللبان المُر الذي يُباع على هيئة قطع عند العطار، وباع لهم اللوز والجوز ولعبًا بلاستيكية لأطفالهم فتمردوا على أهلهم ورموا العروس القماش المحشوة بالقطن بضفيرتيها السوداوين في ترعة المريوطية.

تبدل حال عبد الجبَّار خلال أقل من عام، واستيقظت قرية ميت رهينة ذات صباح لتجده الأكثر ثراء ومهابة وقوة. أصبح يتحاشى الأماكن التي قد يتواجد فيها أدهم أو هاجر، بل يترك المجلس إذا ما تناول أحدٌ سيرتهما.

ظل يهرب من مطاردة العائلات الكبيرة لاصطياده كزوج لإحدى بناتها، ولكنه وقع قبل أن ينتهي العام الأول على زواج هاجر فريسة لعائلة القاضي، خطب هند صغرى بنات محمد القاضي وأحلاهن، ولكنه كان كلما نظر إليها لا يجد تلك الرعدة التي كانت تنتابه وهو ينظر إلى عيني هاجر، فعينا هاجر كانت تعكسان بوضوح عضلاته المفتولة القوية وكتفيه العريضتين وقامته الطويلة، كان يشعر أمامها أنه شمشون الجبَّار وأنها ست الحسن والجمال التي تنتظر فرصة لتتهاوى بين أحضانه، لم يكن بين هاجر وهند شبه على الإطلاق إلا بداية اسميهما بحرف الهاء.

لم يعرف أحدٌ في ميت رهينة كيف أصبح عبد الجبَّار ثريًّا بين ليلة وضحاها، عبد الجبَّار الذي كان يضع فردتي بُلغته تحت إبطه ويمشي حافيًا حتى تعيش بُلغته أطول فترة ممكنة، صار يمتلك أكبر زريبة بهائم وأراضي في أكثر من زمام تفوق مساحتها أراضي أدهم أو حماه القاضي نفسه، وقطعة أرض فضاء كان يشرح لمَن يجلس معه أنها ستكون أكبر مزرعة دواجن في مصر. بنى دوارًا في العزيزية بالطوب الأحمر وطلاه بلون أبيض زهري، كان أكبر من دوار القاضي والعمدة ومن قصر هاجر نفسه، وكان الناس في القرى البعيدة يستطيعون رؤية سور سطحه المزين بأهلة وقباب.

يقول بعض الأهالي إنه بعد أن عاد من بورسعيد وأحضر لأدهم كلَّ ما طلبه وأكثر، طلب منه أدهم أن يدق له في أرضه أكثر من طلمبة مياه، وهنا يؤكدون ويقسمون بأغلظ الأيمان أن فأس عبد الجبَّار اصطدمت أثناء الحفر بباب صخري مزين بنقوش.. حدثه قلبه أنها طلاسم مرسومة عليه لكي تحمي ما وراءه من النهب، أو قد تكون هذه الرسوم هي اسم صاحب المقبرة التي لم تطأها قدمٌ منذ آلاف السنين، مذ دفن الفراعين أحد ملوكهم هنا.

مَن كانوا يحبون عبد الجبَّار ويعملون كمزارعين أو خفر أو خدامين في أملاكه يقولون وهم يضعون أصابعهم على وجناتهم علامة على الفهم: "أُمال، وهو يعني لو كان وجد مساخيط ذهب كان أدهم باشا يخليه يأخذها! هي الحداية بترمي كتاكيت يا ناس!" أما مَن كانوا يكرهون عبد الجبَّار فهم يشرحون ما حدث يومها لحظة بلحظة كأنهم كانوا معه.

عندما اصطدم الفأس بما يشبه الباب الصخري ازدادت همة عبد الجبَّار وأوسع دائرة الحفر ونجح في شق ممر يكفي جسده الضخم وزحف إلى داخل المقبرة مثل الثعبان وحمل ما يكفي لملء كيس كبير من أكياس محلج القطن. انتقى كلَّ ما هو مصنوع من الذهب وترك الفضة والنحاس، أخذ تماثيل ذهبية لكباش وأجساد بشر متقنة النحت لولا رؤوس الصقور التي تعتليها. أخذ أواني مختلفة الأحجام وجد بها أحشاء آدمية كانت ويا للعجب على حالتها فحرص أن يدفنها في مقبرة البدرشين بعد أن صلى عليها صلاة الميت، وقطعًا ذهبية يبدو أنها كانت أموالًا، وتماثيل مختلفة الأشكال يُقال إنها لآلهة كانوا يعبدونها، كما أخذ أحجارًا كريمة وجعرانًا فرعونيًّا لا يقدر بثمن، وباعها كلها على شاطئ بورسعيد للخواجات الذين يموتون في سبيل الحصول على قطعة واحدة منها ويدفعون المئات ثمنًا لها.

بعد ذلك ردم عبد الجبَّار باب المقبرة ثانية، بل إنه غطاه بالصخور والهيش وذهب إلى مكان آخر أبعد يحفر فيه طلمبة ولا من شاف ولا من دري. ثم يضع الذين يكرهونه أصابعهم على وجناتهم علامة على الفهم ويمصمصون شفاههم: "أُمال، وأدهم باشا كان غارقًا في العسل يا وِلدَاه في حضن البنت هاجر".