رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كنت صبيًا في السبعينات!


تعتبر الذكريات من أمتع ألوان الكتابة؛ إذ تتسم بنكهة الحكي، ومحاولة ترميم الماضي على ضوء الحاضر. وتأتي في صدارة ذلك اللون من الكتابة الذكريات التي كُتِبَت للذات، دون نظر إلى رقابة مجتمعية، أو حتى رقابة ذاتية. ويعتبر أصدقها على الاطلاق تلك التي لم يتولى صاحبها منصب عام يجبره على تحول ذكرياته إلى سردية تبريرية لأفعاله، أو نصب تذكاري لأمجاده المزعومة.
من هنا تأتي أهمية السيرة "الثقافية الاجتماعية" للكاتب الصحفي المرموق محمود عبد الشكور "كنت صبيًا في السبعينات"؛ إذ تكتشف من أول صفحة أنك أمام أحد كبار الحكائين في عالمنا العربي، قدرة فائقة على ترويض الذاكرة والحبكة الدرامية، ومعالجة لحظات هامة من تاريخ السبعينات، بعين زمانها، ولكن أيضًا في ضوء اللحظة الحاضرة، نسيج متشابك يجمع بين الماضي والحاضر ببساطة ومهارة واقتدار.
من أول نظرة إلى الكتاب تتأكد أنك عثرت على كنز تاريخي، وأنك أمام مغارة علي بابا السبعينات. يصلك هذا الشعور من الغلاف الاستثنائي للكتاب؛ في أعلى الغلاف صورة لصبي بدت على ملامحه علامات البلوغ، وبجانبه عبارة: "سيرة ثقافية واجتماعية"، لذلك يجمع الغلاف بذكاءٍ واقتدار بين صورة السادات وكيسنجر ليذكرنا بكامب دافيد ومعاهدة السلام، وصورة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم تعبيرًا عن الحلم المنكسر للسبعينات، ثم ينتقل بنا إلى الضحكة الحلوة وصورة أبطال المسرحية الاستثنائية لجيل السبعينات "مدرسة المشاغبين"، ليذكرنا محمود عبد الشكور أن التليفزيون عرض هذه المسرحية في ليلة رفع الأسعار وأحداث 18 و19 يناير 1977 حتى يبقى الناس في البيت، وأخيرًا الوجه الصبوح والبسمة الخلابة لماما نجوى- نجوى إبراهيم- ومعها بقلظ، وكيف أسعدت جيل بأكمله.
إنها سنوات السبعينات، زمن الأحلام الضائعة، لذلك يبدأ محمود عبد الشكور سيرته بالموت وينهيها بالموت؛ تبدأ الذكريات بوفاة جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970، نهاية أحلام الستينات، وبداية انكسارات السبعينات، يقول عبد الشكور:
"بعد أسبوع واحد من الجنازة الرسمية، سقط أبي مريضًا، لم يكن ناصريًا، قال لي بعد سنوات طويلة، تحطمت أحلامنا مع هذا الرجل، خذلنا جميعًا. لم يكن أبي من دراويش عبد الناصر، ولكنه كان مؤمنًا بأنه زعيم استثنائي، موته مأساة، وموته والبلد مهزومة بالذات مصيبة المصائب. منقوشة على صفحة الذاكرة المسموعة عدودة المصريين على جمال، لا أتذكر أين سمعتها: الوداع يا جمال يا حبيب الملايين".
وكما بدأت المذكرات بوفاة عبد الناصر وصدمة جيل، والجنازة الشعبية التاريخية، يُنهي عبد الشكور سنوات السبعينات بإغتيال السادات في 6 أكتوبر 1981، وفي عبارة لا تخلو من دلالة، يصف جنازة السادات قائلاً:
"كانت جنازة السادات التي نقلها التليفزيون محدودة والتشديدات الأمنية صارمة. ظهر مناحم بيجن وعدد من رؤساء أمريكا السابقين مثل نيكسون وفورد وكارتر، لم يحضر رونالد ريجان".