رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الطهطاوي والوباء



يعتبر الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي بحق رائد الفكر العربي الحديث؛ إذ جمع الطهطاوي بين الثقافة الشرقية التقليدية من خلال دراسته الأزهرية، والعلوم الأوروبية الحديثة من خلال رحلته الشهيرة إلى فرنسا، وعلى الرغم من أن سفر الطهطاوي كان لمجرد الإرشاد الديني للمبعوثين المصريين، وإمامتهم في الصلاة، إلا أنه استطاع تعلم الفرنسية واستيعاب العلوم الحديثة.
ويلخص لنا الطهطاوي رحلته ومشاهداته في باريس في كتابه الأشهر "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، هذا الكتاب الذي يجسد بحق صدمة اللقاء مع حضارة الغرب، والمحاولات الأولية في التوفيق بين الثقافات.
ما يهمنا هنا بطبيعة الحال هو رصد الطهطاوي لمسألة مواجهة الدولة الحديثة للوباء، والإجراءات الاحترازية في هذا الشأن. ولتفهم هذا الأمر جيدًا لا بُد من الأخذ في الاعتبار الخلفية الثقافية للطهطاوي آنذاك، فهو القادم إلى فرنسا وفي ذهنه مفهوم الدولة التقليدية التي عاش الشرق في إطارها قرونًا عديدة، هذه الدولة التي ينحصر دورها في الجهاد وتطبيق الشرع وجمع الضرائب، أما شئون الصحة العامة والتعليم فهي أمور متروكة لفعل الخير ولنظام الأوقاف "الأهلي" الذي يتولى إنشاء المدارس "الكتاتيب" والمستشفيات "البيمارستانات". من هنا جاءت التعليقات الحادة لعلماء الحملة الفرنسية استنكارًا لإهمال "الدول الشرقية" لأمور الصحة والتعليم، لقد كان هذا في واقع الأمر صداما بين ثقافتين: ثقافة الدولة التقليدية، وثقافة الدولة الحديثة.
في إطار هذه الخلفية الثقافية نستطيع تفهم أن أول ما استلفت نظر الطهطاوي عند رسو السفينة في ميناء مرسيليا، هو حجز السلطات الفرنسية لهم فيما حاول الطهطاوي تعريبه بـ"الكرنتينة" أي الحجر الصحي الإلزامي من جانب الدولة للقادمين إليها خوفًا من حملهم للمرض، وللحيلولة دون انتشار الوباء يقول الطهطاوي: "نزلنا من سفينة السفر في زوارق صغيرة، فوصلنا إلى بيت خارج المدينة معد للكرنتينة على عادتهم مِن أن مَن أتى من البلاد الغريبة لا بُد أن يكرتن قبل أن يدخل المدينة".
هكذا يرصد لنا الطهطاوي هذه الظاهرة الجديدة التي لم يعرفها في مصر من قبل، ولذلك يقول: "بيت مُعَد للكرنتينة على عادتهم". لكن مصر ستعرف بعد ذلك هذا الأمر مع إنشاء مدرسة قصر العيني ودخول الطب الحديث إليها؛ إذ ستصبح مصر جزءا من العالم الحديث، وتصبح من مهام الدولة الحديثة في مصر منذ محمد علي، وبصفةٍ خاصة منذ عصر إسماعيل، الاهتمام بالصحة العامة والتعليم، وتعرف الطب الوقائي وأيضًا الكرنتينة التي أذهلت الطهطاوي عندما رآها لأول مرة في مرسيليا.
ويوضح لنا الطهطاوي أن أمر الكرنتينة لم يكن معروفًا في مصر، لذلك لم يثر الكثير من الجدل بين الفقهاء حول مشروعية الكرنتينة، بينما ثار الجدل الفقهي حول ذلك بين علماء المغرب العربي نتيجة قرب بلاد المغرب من أوروبا؛ إذ يروي الطهطاوي كيف حكى له بعض العلماء المغاربة عن الجدل بين الفقهاء حول ذلك الأمر، لا سيما في تونس، إذ أفتى الشيخ محمد المناعي التونسي المالكي المدرس بجامع الزيتونة بتحريم الكرنتينة، لأنها تعني الفرار من قضاء الله وقدره، بينما أفتى مفتي الحنفية الشيخ محمد البيرم بإباحتها، بل بوجوبها لمنع الضرر وأيَّد فتواه بأدلة من الكتاب والسنة.
انتهى زمن الطهطاوي ودخلت "الكرنتينة"- الحجر الصحي- إلى بلادنا الإسلامية، لكن لم ينقطع حتى الآن الجدل الديني حول مشروعية مواجهة الوباء، وهل يعتبر ذلك فرارًا من قضاء الله وقدره؟! وأيضًا الشطط في الرأي حول هل الوباء عقاب إلهي للبشرية؟!