رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مارسيل نظمي تكتب: «كورونا» ما لها.. وما عليها

مارسيل نظمي
مارسيل نظمي

نعيش حالة من العزلة "مفتوحة المدى".. نبتعد عن أقرب المقربين لنتفادى عدوى محتملة وغدر مرض قد يكون كامنًا داخل أجسامنا دون حتى أن ندري.. ننظر بصمت -ونحن مكتوفي الأيدي- لحالنا المادي الذي ينهار رويدًا رويدًا.. نمتنع عن ممارسة كافة الأنشطة التي طالما عرفنا أنها الحصن المنيع للحفاظ على صحتنا النفسية والبدنية بحالة جيدة، ثم نجدها تروح بلا عودة تلوح في الأفق.

مخاوف كثيرة لا مجال لحصرها من انهيار دول وقيام أخرى؛ ومع ذلك- لم تكن الصورة بهذه القتامة يومًا واحدًا في الحياة، فمع كل فرد يموت تبدء دورة حياة جديدة من رحم أم تلد.. تظهر أوبئة وأمراض لتزدهر علوم تفسر معضلاتها، وتجد حلولًا لكثير منها، فكم من أوبئة كادت تفتك بالبشرية، إلا أن جهود العلماء حالت دون ذلك، وهكذا الحال بالنسبة إلى كورونا (كوفيد 19).

هذا المرض على الرغم من شراسته ومباغتته للعالم في أوج فترات حضارته وتطوره التكنولوجي والصناعي، إلا أنه عَلًم الإنسانية دروسًا علينا الانتباه لها، وإعادة التفكير في مغزاها للأخذ بها عند عودة الحياة مجددًا لمسارها الطبيعي.

- الأرض تتنفس
هل استنشقت نسمة هواءً طيبة -لم تكن معتادًا عليها منذ زمن- خلال الأيام الماضية؟ دعني أخبرك أن شعورك حقيقي، ولك أن تعرف "تلوث الهواء يسلب من متوسط عمر الإنسان نحو ثلاث سنوات"، دعني أزيد عليك أن بعض الباحثين جاءت تقديراتهم لحساب ما يسلبه التلوث الهوائي من عمر الإنسان، في مرتبة مرتفعة عن التدخين، ويتجاوز المخدرات 60 ضعفًا كسببًا للوفاة.. تخيل!

كل عوادم السيارات المحيطة بنا، والغازات المنبعثة من محطات الطاقة والمصانع والشاحنات، أصبحت جزءًا من حياتنا، غير أن فيروس كورونا جاء ليسكتها جميعًا على طريقة "Shut Down" ليعطي رئة السماء الفرصة على التنفس من جديد.

ورغم المأساة التي تشهدها إيطاليا في ارتفاع عدد الوفيات جراء الفيروس، التقط القمر الصناعي "كوبرنيكوس سنشينل-5بي" صورًا رصدت انخفاضًا ملحوظًا في ثاني أكسيد النيتروجين في الفترة ما بين يناير حتى 11 مارس من العام الجاري، الحال تشابه في الصين فترة الحجر الصحي، حيث أظهرت الأقمار الصناعية تحسينات جذرية بالأجواء لانخفاض معدلات العوادم.

أتخيل جيلًا جديدًا سيكون ممسكًا بزمام الأمور مستقبلًا، ومتحكمًا في قواعد العمل، سيكون عليه التفكير بجدية بشأن العمل عن بعد، بتواجد أقل للعمالة البشرية، للحد من التلوث والزحام والعوادم الجنونية، وإعطاء فرصة للهواء بتجديد نفسه.

- الكل أمام كورونا سواء
هذا المزارع الآسيوي يعاني الآن مما يعانيه الأوروبي في القارة الأخرى، وهذا الإفريقي الباحث عن قوت يومه، أصبح على مسافة واحدة مع ساكني القصور والامراء.. الكل سواسية أمام كورونا، فلا وجود لفرص النجاة بشكل فرادي، الكل يفكر في كيف ينجو العالم، ولم يعد هناك مجال لـ"كيف أنجو أنا".

امتدت مفاهيم المساواة داخل البيت الواحد، أعرف بشكل شخصي علاقات انصلح حالها بعد بقاء الأزواج مجبرين بالبيوت، أصبح عليهم قضاء ساعات أطول مع الأبناء والزوجة، واكتشاف احتياجاتهم، والمشاركة في أعمال منزلية كانت بعيدة كل البعد عنهم، وبالطبع هذه المساندة الزوجية والتواجد أصلح ما أفسدته جلسات النميمة المسائية على المقاهي.

- أنت لست وحدك
قد يكون كورونا دافعًا لنا أيضًا للتفكير في علاقة الإنسان -ليس فقط بباقي البشر- بل بالحيوانات وتعاملنا مع الكائنات الحية بشكل عام. فبينما نحن منشغلون بسرعة الإنترنت لتحميل فيديو أو كتاب أونلاين، وجدت الحيوانات في بلدان مثل اليابان، تايلاند، إيطاليا، فرصتها لتجوب الشوارع في مشهد احتفت به الصحف العالمية، حيث وجدت قطعان الغزلان أو القردة أخيرًا متعتها بالتمشي بحرية وانطلاق دون خوف من مضايقات الناس الذين انشغلوا في بيوتهم بقضاء فترات التباعد الاجتماعي.

وعلى ذكر الحيوانات، يمكننا كذلك إعادة النظر في فكرة أننا وحدنا المتضررون من أزمة الجائحة الفيروسية، هناك آلاف القطط والكلاب التي كانت تعتمد بشكل أساسي على بواقي الأطعمة بالمطاعم والمحال التجارية، والآن بعد غلقها في الكثير من الدول، هي تعاني أيضًا تمامًا مثلنا، فلما لا نجد نفكر في حلولٍ مثل جمع بواقي الأطعمة ووضعها أمام الحيوانات بشوارع بيوتنا.

أعرف أنها قد تبدو فكرة حالمة، فالبعض تخلص من حيوانات لتصديق شائعة "الكلاب والقطط تنقل المرض"؛ وفي رأيي أن هؤلاء أيضًا يعلمونا أن نشكر "كورونا"، فالضيقة أظهرتهم على حقيقتهم لنا، فلنحتاط منهم إذن لأن ما فعلوه بهذه الكائنات التي لا حول لها ولا قوة قادرون على فعله مرات مع أقرانهم البشر بطرق شتى.

باختصار، تمر البشرية بإجراءات غير مسبوقة من أجل محاربة عدو غير مرئي، يراوغ ويتحايل من أجل بقاؤه حيًا، ونعامله نحن بنفس القدر من المراوغة للحفاظ على بقائنا وحياتنا.. يستخدم هو كل أسلحته الجينية ويطورها، ونحن كذلك نستعين بما وصل إليه العلم، ونتحصن بمعامل الأطباء والعلماء منتظرين دواءًا يتكاتف مع مناعة أجسامنا ويحصنها في حربها الضروس ضد هذا العدو المترصد لنا.

ولكن قد يكون علينا بعد المرور بهذه الكارثة الصحية العالمية تقييم أوراق حياتنا من جديد، وترتيب أولوياتنا، وتجديد هيكلة جداول يومنا وعاداتنا، بحيث نفسح المجال لحياة أخرى أكثر إنسانية تتسع للجميع ونلوذ بها بشر وحيوان ونبات وهواء.