رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مِن رَحِم الأزَمَات تفيض الرَحَمات


مثلما تنبت الأرض حلو الثمار ومُرها، مع أنهما ينبتان من طين واحد، ويشربان من نفس الماء، كذلك الإنسان الذى نشأ على هذه الأرض الطيبة، يخرج منها الجدع والخسيس، الشهم والوضيع، الكريم والبخيل، الشهيد والخائن لبلاده.. ومع أننا كدنا نصل إلى قناعة بأنه لا أمل فى شباب اليوم، الذى سيطر على جانب منه العنف والضياع، وعدم تحمله المسئولية، فإذا بهذا الشباب ينفض عن نفسه غبار صورة تراكمت عنه على مر السنوات الماضية، ليعلن أن ابن النيل ما زال بخير، وأنه قادر على استرداد عافيته، متى ما رأى القدوة، وحين يُقابل المثال.

عشنا زمنًا طويلًا احتل فيه الشباب أبعد زاوية فى اهتمام القائمين على هذه البلاد، فانزوى هو الآخر فى زاوية أبعد منها، ولم يعد يعنيه منها ما تئول إليه أحوالها، حتى صدق فيه المثل الشعبى «إن خرب بيت أبوك، خد منه قالب».. ولكن كما يقولون «جزى الله الشدائد كل خير، عرفتنى العدو من الصديق»، نقول جزى الله عاصفة التنين وفيروس كورونا، ما كان من نتائجهما التى أزالت الغبار عن الجمال فى أخلاق الشباب المصرى، وجعلنا نطمئن إلى أننا بخير ما دام أبناؤنا على خير.. ودعونا نعود إلى البدايات.

مع قدوم الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى سدة الحكم، تفاجأ الناس بأن رجلًا جاء ليضع الشعب فى عينيه، ويضمه بين الحنايا.. يهتم بحياته ومسكنه ولقمة عيشه، وقبل ذلك كرامته التى عبرت عن نفسها فى أكثر من موقف.. وأهم شىء فى هذا، كرامة المواطن وعزة المصرى.. نتذكر عام ٢٠١٥، بعد يوم واحد من نشر مقطع فيديو يُظهر مجرمى داعش فى ليبيا وهم يذبحون ٢١ من إخواننا الأقباط هناك، حين قامت طائرات قواتنا الجوية الباسلة، من مبدأ «حق مصر الشرعى فى الدفاع عن نفسها وحماية مواطنيها فى الخارج»، بدك معاقل التنظيم الإرهابى فى درنة، أهلكت خمسين من متطرفيهم، بعد تفجير منازلهم ومخازن ذخائرهم ومراكز تدريبهم.. فى هذه اللحظة، شعر المصريون بأنه أصبحت لهم دولة تحميهم وتأخذ بثأرهم.. نتذكر عودة ١٩ بحارًا مصريًا قادمين من اليمن إلى القاهرة على متن طائرة «مصر للطيران» التى أرسلتها مصر إلى صنعاء، بعد أن سمحت السلطات اليمنية لهم بالمغادرة دون دفع أى غرامات، على خلفية احتجازهم شهرًا لدخولهم المياه الإقليمية هناك دون تصريح.. نموذج آخر يجسد أهمية المصرى عند بلده.. نتذكر الـ٣٠٦ مصريين الذين أخلتهم مصر من مدينة ووهان الصينية، على متن طائرة مصرية خاصة، عائدة بهم إلى أرض الوطن، بعد إجلائهم من المدينة الموبوءة بفيروس كورونا القاتل، وتقديم الرعاية الطبية اللازمة لهم، على مدى أربعة عشر يومًا، حتى غادروا سالمين إلى بيوتهم.. تلك هى مصر، التى لا تفرط فى أبنائها، الذين أدركوا أن الزمان لم يعد كما كان، وأن شمس التاريخ بدأت تشرق من جديد، على مصر الحضارة ومنبع الإنسانية.. فكان عليهم أن يتغيروا هم أيضًا، حبًا بحب لبلادهم، ويدًا للخير تسبق أختها، لأنهم أدركوا أنهم أبناء دولة تأخذ بزمام المبادأة فى مواجهة الأزمات، وتجعل من الصعب لينًا على مواطنيها، ولا تجعلهم نهبًا لهذه الأزمات، بل إنها تحوطهم بالعناية والرعاية الواجبة، فى كل وقت وحين.

عندما اجتاحت مصر عاصفة التنين، وانقطع السبيل بكثير من الناس الذين حاصرتهم الأمطار الغزيرة، اتفقت مجموعة من الشباب، تمتلك سيارات دفع رباعى، على مساعدة المواطنين العالقين فى الشوارع، وترك الشباب أرقام هواتفهم، لتلقى الاتصالات من الأشخاص الذين يحتاجون للمساعدة، دون أى مقابل ودون تفرقة فى الجنس أو السن أو الجنسية أو اللون.. واستضاف أهالى بنى سويف ركاب القطارات بعد تعطل حركتها، للاستراحة فى منازلهم لحين هدوء العاصفة وانتظام الحركة مرة أخرى، وبسبب توقف رحلات السكك الحديدية، قام عدد من الشباب بتجهيز طعام ومشروبات ساخنة وقدمها للأهالى الذين اضطروا للجلوس فى الشوارع.. وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعى صورة إنسانية لفتاة تقوم بإنقاذ عدد من الكلاب الصغيرة من السيول.. بينما قام بعض الشباب بفتح مطاعمه للأشخاص بلا مأوى، وأتاح لهم تناول الطعام والشراب مجانًا.. وكونت مجموعة أخرى فرقًا انتشرت فى أنحاء محافظة القاهرة لتقديم الخدمات لأطفال الشوارع أثناء السيول.. وقام بعض الأهالى بتوفير بطاطين وعوامل تدفئة للمشردين فى الشوارع، لتخفيف وطأة البرد عنهم، وتطوع شباب للنزول وسط الأمطار لتقديم المساعدة لكبار السن بسبب تعثرهم فى السير وسط المياه.. وفتحت الكنائس والمساجد أبوابها لكل من لم يجد لنفسه مأوى فى هذا الطقس العاصف.

وما أن حلت مأساة كورونا، وحطت برحالها فى مصر، حتى راح البعض يؤدى ما يرى أنه فى إمكانه المساعدة به.. من هؤلاء، الشاب الذى تجول بزجاجات مطهرة على المقاهى الشعبية ومواقف السيارات، لتوعية المواطنين بكيفية مواجهة كورونا، موزعًا عددًا كبيرًا من الكمامات مجانًا.. وقال إنه وضع لافتات إرشادية داخل المقاهى والمواقف والمحلات لتوعية المواطنين وتوجيههم نحو اتخاذ الإجراءات الاحترازية للقضاء على الفيروس اللعين، مؤكدًا أنه سيزور يوميًا محافظة مختلفة داخل أنحاء الجمهورية «إحنا حملة، الهدف منها توعية المواطنين بكيفية التعامل مع الفيروس من الناحية النفسية ثم التطهير».. ولم تقف شهامة المصريين داخل البلاد، بل انتشرت فى أنحاء العالم، عندما أعلن بعض أبناء هذا البلد الطيب، فى بلاد الغربة، من أدناها إلى أقصاها، عن أنهم يوفرون المسكن والمأكل والمشرب، لبعض من انقطع بهم السبيل، فى أعقاب توقف حركة الطيران بين دول العالم ومصر.

الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل الخير ما زال موصولًا بأيادى أبناء المحروسة الذين رفضوا كم الأكاذيب والشائعات التى ترددها قنوات الإخوان الإرهابية، التى تبث سمومها ضد الدولة المصرية من خارج البلاد، ليعبر الشعب المصرى- من خلال مداخلات مقصودة فى برامجها- عن وعيه وإدراكه أهداف هذه القنوات، ساعيًا إلى فضحها وإظهار مخططها الخبيث فى الإساءة لبلاده.. مثلما فضح هذا الإعلام الإرهابى وكشف أكاذيبه وشائعاته عن مصر، بل وهاجم مذيعى الجماعة الإرهابية، فى موقف يكشف عن مدى الكره الشديد لهذه الأبواق الإرهابية التى تظهر على الشاشات يوميًا لنشر الأكاذيب والشائعات والتحريض المستمر ضد مؤسسات الدولة.. وقد حرص المواطنون خلال مداخلاتهم الهاتفية مع قناتى الشرق ومكملين الإرهابيتين، على التأكيد أن الإعلام الإخوانى يعمل وفق أجندة محددة، ولا يتحدث عن أى إنجازات، وأنه مجرد بوق للأكاذيب والشائعات فقط، بل إنه يسعى أيضًا إلى تشويه المؤسسات من خلال اختلاق الأكاذيب عنها، بعيدًا عن أى ميثاق إعلامى ودون الالتزام بالمبادئ الأساسية لأى وسيلة إعلامية، حتى أصبحت هذه القنوات مجرد صوت إرهابى ضد الدولة المصرية.

وبعد.. فليس جديدًا على أبناء مصر أن يثبتوا يومًا بعد يوم «جدعنتهم» فى المواقف الصعبة.. لكن، وللأسف، يأتى فى مقابلهم تجار الأزمات، الذين يقتاتون على أوجاع الناس ومصائبهم، أولئك الذين استغلوا ما نحن فيه من معركة ضد فيروس كورونا، وراحوا يرفعون أسعار المستلزمات الطبية، ويغالون فى أثمان بضائعم، من مأكل الناس ومشربهم.. ويصطف إلى جوارهم كل الذين يقدرون على مساندة الدولة المصرية فى أزمتها، من الفنانين ورجال الأعمال ونجوم الكرة وغيرهم، ممن بخل بالمال على بلد هو سبب سعدهم وثرائهم.. لكن التاريخ لن ينسى هؤلاء، مثلما لن ينسى النماذج المشرفة التى بادرت بالمساهمة والمشاركة بمالها وبعض ما تملك، مؤازرة لمصر فى محنتها التى سيرفعها الله عنها، لا لشىء إلا لأن أهلها طيبون يستحقون الخير من بعضهم، ويستأهلون أن تفيض عليهم رحمات الذى خلقهم وتعهد بحمايتهم.

حفظ الله مصر من كيد الكائدين.