رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإسراء والمعراج.. أعظم رحلة فى التاريخ



فلنغلق فى هذا اليوم صفحات السياسة، والإخوان، والإرهاب، والوباء، بل فلنغلق كتاب «مشاكل مصر» كله وتعالوا معى لنعش فى رحلة روحية فريدة، لعلنا فى هذه الرحلة نستعيد المعدن الأصيل للشخصية المصرية، ولأن هذه الرحلة ستكون روحية لذلك فيجب أن تقرأ ما سأكتبه بروحك وبقلبك، قبل أن تقرأه بعينيك، ويجب أن تُطلق العنان لعقلك كى تصل معى إلى حقيقة الإسراء والمعراج.

تمر بنا ذكرى ليلة الإسراء والمعراج، وكان أحد المفكرين قد شط به الاجتهاد فزعم أن الإسراء كان لمسجد فى الطائف اسمه الأقصى! وأن قصة المعراج مختلقة ومن الإسرائيليات، والفارسيات، روج لها الحكاءون، وتشبث بها المسلمون، ورغم أن هذه الترهات «الفكرية» تحتاج إلى رد تفصيلى، لكننا اتفقنا فى بداية المقال على أن تكون رحلتنا روحية، وفى الرحلات الروحية يجب أن يغيب الخلاف والاختلاف، ولنترك من كتب فيما كتبه، هو وشأنه، ولنبدأ فى رحلتنا الروحية لعلنا نصل من خلال الأرواح ووثباتها إلى حقيقة المعراج، وسنرى كيف رأى الرسولُ، صلى الله عليه وسلم، اللهَ سبحانه وتعالى يوم أن عُرِج به، والآن إلى الرحلة فكونوا معى.

هذه الرحلة- كما تعلمون- رحلة روحية تذهب إليها أرواحنا دون أن نبرح أماكننا، وقد يبدو الأمر غريبًا على البعض أن تكون بداية الرحلة منطلقة من مشاعر الحزن الشفيفة، فمن منا لم يخالط قلبه الحزن ويضمخ فؤاده الألم؟ كلنا نحزن ولكننا حين نحزن نجهل أننا عندما نحزن نرتقى من حيث نظن أننا ننتهى، وأعلى الحزن منزلة وللحزن منازل هو حزن فراق الأحباب، وما يدريك ما فراق الأحباب؟ ذاك الفراق الذى لا يعرفه إلا من كابده، وقد كابد الحزن العميق قلبى لوفاة والدتى، عليها رحمة الله، لذلك أكتب لكم وأنا أشعر بالحزن الذى صاحب قلب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبل هذه الرحلة، فحين عرف قلب الرسول، صلى الله عليه وسلم، ألم الفراق لمَّا ماتت زوجته وحبيبته أمنا «خديجة» رضى الله عنها، وعمه حبيبه وناصره «أبوطالب» اغترف قلبه من الحزن اغترافًا، وكان حزنه نورًا فى قلبه وتصفية لنفسه وارتفاعًا بمقامه، كان هذا الحزن تهيئة له حيث تنتظره رحلة نورانية فريدة لا مثيل لها فى السابق، ولن يكون لها مثيل فى اللاحق، رحلة سيخترق فيها بإذن ربه سننًا كونية، وفى كتب السيرة قرأت أن رحلة الإسراء والمعراج كانت مكافأة للرسول، صلى الله عليه وسلم، تبهج قلبه عوضًا عن فراق أحبابه، وأظن الأمر كان على غير ذلك، فهى لم تكن مكافأة، ولكن الحزن كان هو «التهيئة» الربانية حتى تخلو نفس الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلا من الله وحده، فالله وحده الذى إن فارقنا أحبابُنا كان هو الحبيب الذى لا يفارقنا، فسبحانه لا يقطعنا، ويده لا تُرفع عنا.

تهيئة نفس الرسول، صلى الله عليه وسلم، إذن لاختراق بعض سنن الكون، وكل نبى من الأنبياء اخترق سننًا كونية بإذن الله ومشيئته وعلمه الذى بث قدرًا منه فيهم، إبراهيم عليه السلام اخترق خاصية النار المُحرقة فكانت بردًا وسلامًا عليه، وعيسى اخترق خاصية الموت والحياة فأحيا الله به الموتى، وأجرى الله على يديه الشفاء للمرضى، ثم رفعه الله إليه ليبقى متخطيًا زمنًا لا نعرفه فى مكان نجهله، أو حيث اللا زمان واللا مكان، وانظر للسنن الكونية التى اخترقها موسى عليه السلام، أما سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، فحادث الإسراء والمعراج شاهد على اختراقه حجب الزمان والمكان، وهو لم يخترق سنن المكان والزمان ليُعجز قومه، فلم تكن تلك الرحلة من باب التحدى لقومه، ولكنها كانت ارتقاءً بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى مدارج نورانية علوية لم يصل إليها أحدٌ من خلق الله من قبل، ولو كانوا من الملائكة المقربين.

وقد شهد الرسول، صلى الله عليه وسلم، كل مشاهد الإسراء والمعراج، واستغرق زمنًا لا نعلم مقداره، وعاد إلى بيته قبل أن يبرد فراشه، وكانت الليلة شاتية باردة، فأنكرت قريش وقالت وفقًا لعلمها: نَحْنُ نضرب إليها أكباد الإبل الشهر والشهرين، ويذهب مُحَمَّدٌ إليها فى ليلة! فماذا لو علموا أنه عاد بمقدار أن يتجرع أحدهم شربة ماء! كانت سُنة الزمن الذى دلف إليه غير سُنة زمننا، وقانون المكان غير قانون مكاننا، لذلك ذهب وعُرج به ونزل وعاد دون أن يمر عليه الزمن الخاص بنا، ولكن مر به الزمن الخاص بالطبق الذى دخل إليه «لتركبن طبقًا عن طبق» فالله خلق السماوات والأرض طباقًا وليس طبقات أو متطابقات، ألم يقل سبحانه «الذى خلق سبع سماوات طباقًا» أى متداخلات بشكل كامل بحيث يستحيل أن تلحظ فارقًا بين طبق وطبق مصداقًا لقوله «ما ترى فى خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور».

ولكن هل رأى الرسولُ، صلى الله عليه وسلم، «اللهَ» فى المعراج؟ اسمع منى يا سيدى العزيز، ومرر ما سأقوله على قلبك وعقلك، سُنة الله فى الحياة الدنيا أننا لا نراه بالنظر، إذ إنه خلقنا على هيئة وحالة لا تستطيع أن تستقبله بالنظر، فهو ليس شيئًا، وليس متحيزًا بمكان أو منطبعًا فى صورة، فسبحانه سبحانه لا تدركه الأبصار، ولكن الأمر فى جنة الخلد يختلف عن الدنيا، فالله فى الجنة يهيئنا على حالة أخرى غير حالتنا التى كنا عليها فى الحياة الدنيا، فالله سبحانه يقول (وجوه يومئذ ناضرة*إلى ربها ناظرة) أى أن رؤية الله بالنظر ستكون لطائفة من أهل الجنة، ولكنه نظر غير نظر الدنيا، وبوسيلة غير وسيلة الدنيا.

ولكن فى الحياة الدنيا ضرب الله لنا مثلًا، وكان هذا المثل هو سيدنا موسى عليه السلام، إذ عندما أراد النبى موسى عليه السلام أن يرى الله بالنظر فى الدنيا فقال «رب أرنى أنظر إليك» أى أنه طلب الرؤية بالنظر «أنظر إليك» أخبره الله بـأنه لن يراه بهذه الطريقة فقال سبحانه «قال لن ترانى»، لماذا لن يراه بالنظر؟ لأن بشرية موسى لم تُهيأ لذلك، ومكانية المكان لا تسمح بهذا، ثم أثبت الله له هذا فقال سبحانه «ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف ترانى» أدر يا موسى نظرك وحدق فى هذا الجبل وسيتجلى الله لك، وهذا معناه أن الله تجلى، وقادر على أن يتجلى للمخلوق، لأن الجبل من خلق الله «فلما تجلى ربه للجبل» هذه هى لحظة التجلى «جعله دكًا وخر موسى صعقًا» لم يتحمل الجبل بقوته وثباته وشموخه وحديديته وصخريته هذا التجلى فتفتت، ومن هنا نعلم أن الله سبحانه تجلى للمخلوق، والمخلوق بمكانه وزمنه لم يهيأ للاستقبال فانهار.

ولذلك حين طلب موسى عليه السلام وهو بجوار الجبل على الأرض التى نحيا عليها فى الحياة الدنيا النظر بالبصر «أرنى أنظر إليك» طلبها من القادر، طلبها نظرًا، والنظر لا يكون إلا بصرًا، وهذه هى الإراءة، أى أن المريد لا يملك، فطلب من المُراد الذى يملك أن يمكنه من النظر، والمطلوب النظر إليه هو القادر، فقال له القادر حواسك فى الدنيا لا تقدر على رؤية القادر، ودلل له على ذلك بالتجلى لخلق من خلقه وهو الجبل فحدث ما حدث، ولكن الرسول، صلى الله عليه وسلم، لم يره فى حياتنا الدنيا على الأرض التى نحيا عليها، فى مكة، أو فى القدس، ولم يره بسنن الحياة الدنيا ونواميسها، ولكنه رآه فى دنيا أخرى غير دنيانا، حيث اللا زمان واللا مكان عند سدرة المنتهى، وبحواس هيئت لهذه الرؤية فى هذا الموقف، أما صاحبه جبريل فلم يكن قد تهيأ لهذه الرؤية، لذلك أحجم وخاف أن يحترق، ولكنه قال للرسول، صلى الله عليه وسلم، تقدم أنت فستخترق، إذ كان يعلم أن الله أعطاه القدرة على ذلك، فتقدم الرسول واخترق، فرأى الله بالفؤاد وليس بالبصر «ما كذب الفؤاد ما رأى* أفتمارونه على ما يرى* ولقد رآه نزلة أخرى* عند سدرة المنتهى».

ولكن هناك من قال إن الرسول، صلى الله عليه وسلم، لم ير الله بالمرة فى المعراج، وإن المعنى بالرؤية فى آيات سورة النجم هو سيدنا جبريل عليه السلام، وقد استند بعضهم فى هذا إلى قولٍ للسيدة عائشة، رضى الله عنها، بأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، لم ير الله ولكنه رأى جبريل، ولأن السيدة عائشة، رضى الله عنها، وقت الإسراء كانت طفلة فى بيت أبيها أبى بكر، رضى الله عنه، لذلك فإنها اعتمدت فى رأيها هذا على تأويلها لآيات القرآن، إذ إنها لم تقل إن الرسول، صلى الله عليه وسلم، هو الذى أخبرها بذلك، ومع ذلك فإننا لا يمكن أن نغفل قضية منطقية اتفق عليها الجميع، هى أن النسبى لا يمكن أن يُحيط بالمطلق، وبما أن الله مطلق لذلك فإننا أهل النسبية لا يمكن أن نراه، ولذلك أيضًا عجز سيدنا موسى عليه السلام عن رؤية الله، وتفتت الجبل عندما تجلى له رب العزة، ولكن سيقول البعض: ومع ذلك فإن سمع سيدنا موسى عليه السلام النسبى استقبل كلام الله المطلق، ألم يكلم اللهُ موسى تكليمًا؟! نعم هذا صحيح ولكن هذا أيضًا يدل على أن الأمر هنا فوق نطاق الحواس، فلا البصر الطينى له أن يستقبل الرؤية، ولا السمع الطينى هو الذى يستقبل الكلام، ولكن الروح التى فى أجسادنا الطينية هى التى تستقبل هذا وذاك، تتعطل الحواس وتنطلق الروح إلى آفاق لا يمكن أن يصل إليها الجسد.

لذلك فإن الله سبحانه قد هيأ الرسول، صلى الله عليه وسلم، لرحلة الإسراء والمعراج تهيئة خاصة، فالجسد بطبيعته العادية لا يمكن أن يخترق حجب الزمن، وسرعة الضوء، فيُسرى به ثم يُعرج به ثم يعود إلى مكانه ولم تمر عليه إلا دقيقة! ولكن إذا هَيَّأ الخالقُ تهيَّأ المخلوق، وكان من ناتج هذه التهيئة أن أصبحت طبيعة الرسول، صلى الله عليه وسلم، فى البداية نورانية ملكية وبهذه النورانية انتقل إلى عالم الملائكية وخضع لقوانينهم، وقبل أن يدخل إلى سدرة المنتهى هيئه الله لطبيعة تتخطى نورانية الملكية، لذلك قال له سيدنا جبريل تقدم أنت وادخل لسدرة المنتهى فلو تقدمت أنا لاحترقت ولو تقدمت أنت لاخترقت، إذ إن نورانية جبريل: لم تكن لتسعفه على تحمل سدرة المنتهى حيث «لا مكان ولا زمان»، حيث اللا مكان واللا زمان تتعطل الحواس البشرية كلها، فلا مجال لها عندما تتسيد الروح، ومن أجل هذا فإننا لا نستطيع وقتئذ أن نتحدث عن قوانين البشر فى الرؤية والنظر والبصر والسمع والشم واللمس، ولكن من سيكون فى سدرة المنتهى سيخضع لقوانينها فى الاستقبال لا قوانين الحياة الدنيا.

وإذ ظن البعض أن قوانين الجسد البشرى الطينى هى التى كانت تصاحب الرسول، صلى الله عليه وسلم، فى المعراج لذلك فهم «الرؤية» الواردة فى سورة النجم على أنها كانت لجبريل عليه السلام، ولكن كيف تكون لجبريل وهناك من يمارى فيها مصداقًا لقوله تعالى: «أفتمارونه على ما يرى» وكيف يكون لم ير إلا جبريل وتكون رؤية الرسول، صلى الله عليه وسلم، لسيدنا جبريل فى ذات الوقت آيةً كبرى! فى الوقت الذى كان فيه جبريل يتنزل على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كل حين! وكيف يكون قد رأى جبريل بالفؤاد فقط وهو الذى يراه فى الحياة الدنيا بالبصر! ثم إن الله قال «لقد رأى من آيات ربه الكبرى» وهناك قراءة تقول لقد رأى من آيات ربه «الكبرى» أى أنه رأى الآية الكبرى من آيات ربه، وهى آية رؤية الله.

نحن هنا بين رأيين، فهناك من نفى رؤية الرسول، صلى الله عليه وسلم، بالكلية لله، وهناك من أكد أنه رآهُ بالبصر، ولكن الأمرَ عندى غير ذلك، إذ إن من يستقبل فعل الرؤية على أنه إدراك بالبصر فإنه يكون قد غفل عن «لسان القرآن» وفى القرآن الرؤية غير النظر، والبصر، والمشاهدة، وقد وردت الرؤية فى كثير من الآيات على نحو يدل على الإدراك بحاسة غير حاسة البصر، وتدل على الإدراك بالفؤاد والعقل والقلب، مثل الكثير من آيات «ألم تر» معناها ألم تعلم، فالرؤية هنا هى العلم، مثل قوله تعالى «ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل» و«ألم تر كيف فعل ربك بعاد» أى ألم تعلم، أما الكلمة فى اللغة التى تعنى إدراك الأشياء بالعين فهى «البصر» كقوله سبحانه وتعالى فى سورة البقرة «وتركهم فى ظلمات لا يبصرون» وفى سورة الأعراف «ولهم أعين لا يبصرون بها» أما كلمة النظر فتستخدم لغة أيضًا للدلالة على اتجاه الإنسان بعينيه إلى الأشياء، ففى سورة البقرة «وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون» وفى سورة البقرة «فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه» ومع ذلك قد يستدير وجهُك ويتجه نظرُك إلى شىء ولا تُبصره، فالله يقول فى سورة الأعراف «وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون» ومن هذا كله نعلم أن الله فى المعراج قد هيأ سيدنا محمدًا، صلى الله عليه وسلم، ليراه بطريقة أخرى، ففى سدرة المنتهى تعطلت الحواس وانطلقت الروح فكانت رؤية الفؤاد التى هى أكثر إدراكًا من رؤية البصر «ما كذب الفؤاد ما رأى».

من أجل تلك الكلمات الأخيرة طلبت منكم أن تفهموا الأمر كله بأرواحكم، فالأرواح هى التى تدرك ما لا يدركه العقل والنظر والبصر، ولقد كانت كلمة القرآن الفيصلية هنا هى «الفؤاد» ولم يقل الله سبحانه: ما كذب الفؤاد ما أبصر، أو ما نظر، ولكنه قال: «ما رأى» والرؤية تكون بالفؤاد لا بالحواس، أما سيدنا موسى عليه السلام فكان قد طلب مشاهدة الله بالنظر فقال «أرنى أنظر إليك» من أجل هذا لا يجوز أبدًا أن نقول إن المعراج لم يحدث وسورة «النجم» هى التى قصت علينا قصة المعراج وليست حكاوى القاصين، أو تخرصات الإسرائيليات، أو الخرافات الفارسية.