رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خط الدفاع الأبيض.. أطباء الحجر الصحي: لن نعود إلى منازلنا حتى خروج آخر حالة

أطباء الحجر الصحي
أطباء الحجر الصحي

اصطفوا في فرقًا طبية قاصدة مستشفيات الحجر الصحي لمواجهة العدو المجهول الذي أُطلق عليه فيروس "كورونا" أو كوفيد 19"، تمامًا مثلما تستعد الجيوش على الجبهة قبيل دق طبول الحرب، هم أطباء الحجر الصحي، الذي يمثلوا خط الدفاع الأول عن حياة الشعب المصري، مضحين بأرواحهم غير مبالين بحجم المخاطر التي من الممكن أن تكلفهم حياتهم في غفلة من الزمن، مسجلين بهذه الفدائية ملحمة سيذكرها التاريخ حتمًا يومًا ما.

عرفانًا بجهودهم وإيمانًا بقدرتهم في الانتصار، تواصلت "الدستور" مع بعض أبطال الحجر الصحي في هذا الملف؛ لرصد جانب من جهودهم ومدى الصعوبات التي تواجههم في مهمة فرضها عليهم طبيعة عملهم وكونهم أطباء، وصفها العالم أجمع بالحرب العالمية الثالثة.

ـ الحديني: زوجتي كانت مصدر التفاؤل.. ونظرات فراق والديا كانت الأصعب

بدأ أحمد الحديني، أحد أفراد طاقم الحجر الصحي، حديثه قائلًا: "أخبرني مدير مستشفى الدمرداش ورئيس جامعة عين شمس بتكليفي ضمن أحد الأطباء الذين وقع عليهم الاختيار ليكونوا ضمن الفريق الطبي للحجر الصحي بمستشفى أبو خليفة في محافظة الإسماعيلية، لم يكن هناك أي مجال للمماطلة في الأمر أو التفكير فيه حتى أنه كان لا يفصلني سوى ساعات قليلة عن موعد تحرك السيارة من القاهرة إلى الإسماعيلية".

لم أنكر أني انتابني بعض القلق وقت استقبالي خبر التكليف حول المصير المجهول الذي ينتظرني، يقولها "الحديني"، مستطردًا: " حتى أنني لم أرد أن أخبر والديا؛ لأنهما حتمًا سيكون الخبر كوقع الصاعقة عليهما، واكتفيت بإخبار زوجتي والتي شجعتني كثيرًا، وكانت مصدرًا للأمل والتفاؤل وحثي على خوض المعركة بمنتهى الشجاعة، وبالفعل في غضون ساعات كنت قد ودعت زوجتي، كما أمتعت عيني برؤية أمي وأبي في نظرات قد تكون هي الأخيرة.

يضيف طبيب الحجر الصحي:" في مستشفيات الحجر الصحي على مستوى الجمهورية جميع الحالات هي حالات إيجابية مصابة بفيروس كورونا، وتتلقى بروتوكول العلاج الذي وضعته وزارة الصحة، فكان شعوري عند تعاملي مع أول حالة إيجابية بفيروس كورونا مغلفًا بالشفقة عليهم؛ لأنه يعتبر من أصعب الحالات المرضية في الحجر الصحي؛ إذ أنهم مرضى يتم عزلهم عن جميع الأشخاص وجميع الأشياء، حتى أننا نحاول أن نخفف عنهم بكلمات المواساة وضرورة التحلي بالصبر، فالإنسانية هنا تحكم المشهد".

واختتم الدكتور أحمد الحديني، أن الشعب المصري الآن يقع على عاتقه مسئولية كبيرة لا تقل أهميةً عن مسئولية الفريق الطبي المصري، فإذا كان الأطباء عليهم مسئولية العلاج ومداواة الحالات المصابة، فالشعب عليه الاتزام بالأوامر السيادية العليا والإجراءات الاحترازية، التي تتضمن الاستقرار بالمنزل وعدم الخروج منه فهي ليست رفاهية أو اختيارية، فنحن على حافة الخطر وغير آمنين سوى بالامتثال إلى الإجراءات الوقائية وإرادة الله عز وجل.
ـ داوود: أكثر ما يؤلمني هو أن يتم توأمي عامهم الأول وأنا لست معهم

أيمن داوود، أحد أطباء الحجر الصحي في المطار، بدأ حديثه بأن الحجر الصحي هو أكثر مكان آمن في مصر على الأطباء والحالات المصابة بفيروس كورونا، طالما اتبعت الإجراءات الوقائية فانت في مأمن من الفيروس، موضحًا أنه لا داعي لخوف الأشخاص التي شُخصت بكونها حالات إيجابية من البقاء في الحجر الصحي، فهو ملاذهم الوحيد في هذه الحالة ليضمنوا بقاءهم على قيد الحياة.

يضيف "داوود" أنه استقبل خبر التكليف مع زوجته، والتي بمجرد سماع الأمر فقدت النطق للحظات وتشتت انتباهها نتيجة وقع الخبر على نفسها، ولم تعد تعرف جيدًا ماذا تقول، واكتفت فقط بنظرات حزينة إلى توأمها "مراد ومرام"، فهي تعلم جيدًا أنه ليس التوقيت الأمثل لرفض مثل هذا التكليف، كما تعلم أيضًا أنني لن أتخاذل في دوري المهني أو أن أتقاعص في أداء عملي خاصةً في هذه المحنة، معلقًا: " زوجتي التزمت الصمت وتركت لي حرية الاختيار، أما أنا كنت أشعر بالشفقة حيال توأمي الحديث الذي لم يكمل عامه الأول، واتمنى أن تنتهي هذه المحنة التي حلت علينا حتى استطيع الاحتفال معهم بعامهم الأول".

وذكر طبيب الحجر الصحي، أن مصر لديها أحدث الأجهزة في الكشف على فيروس كورونا، فتعتبر مصر والصين والبحرين هما من لديهم جهاز الكاشف السريع عن الفيروس في المطارات، موضحًا أنه على الرغم من إعلان وقف الطيران إلا أن رحلات مصر الإستثنائية التي تنطلق لإنقاذ مواطنيها من الدول الموبوئة حول العالم لم تتوقف بعد، وحتى الآن حلقت قرابة 12 طائرة مصرية كي تنتشل المصريين من دول مختلفة حول العالم، وكان آخرهم رحلتين من إيطاليا والأخرى من جينيف.
ـ سمر: مر شهرين على زواجي.. ولم أخبر زوجي بتطوعي سوى عند وصولي الحجر الصحي

على الرغم من حالتها الصحية الضعيفة ومعاناتها من أحد الأمراض المناعية التي تتطلب الراحة معظم الوقت، لكنها قررت خوض معركة هي الأصعب والأشرس من نوعها في تاريخ الإنسانية، هي الدكتورة سمر مزروع، التي أكدت على اتخاذ قرار تطوعها في الحجر الصحي في مستشفى النجيلة بمحافظة مرسى مطروح بكامل إرادتها دون إجبار من أحد أو جهة معينة.

أقسمنا على إحياء البشرية ومداواة الأرواح، فكيف إذًا ننتظر أمر التكليف بالعمل حتى يأتي، تقولها سمر طبيبة الحجر الصحي، مستطردة حديثها قائلة: " عند سماعي عن اكتشاف حالات مصابة بفيروس كورونا لأول مرة في مصر، شعرت أنه قد حان تلبية نداء الواجب الوطني، حتى لو لم أُكلف به، حتى أنني لم أفكر في الذهاب للحجر الصحي من عدمه، أو بمدى خطور الأمر على صحتي، خاصةً وأنني لست أتمتع بحالة صحية جيدة، ولكنه واجبي الذي أقسمت عليه إذًا".

لم يكن إخبار مدير المستشفى بالأمر الصعب، ولكن كان إخبار أمي وزوجي كذلك، تقولها "مزروع"، التي ودعت أمها وداعًا ربما يكون الأخير طالبة منها الدعاء لها ولزملائها بل ولمصر حتى تخوض هذه المرحلة بأقل الخسائر، وعلقت: "دعوات أمي كانت طوق النجاة الوحيد في هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر، أما زوجي فلم أتمالك أعصابي لأخبره؛ لأنه حتمًا كان سيرفض أن تغادر عروسه التي لم تكمل شهرين على زفافها وتذهب على الحدود كي تحارب فيروس هو بمثابة عدو غير مرئي، ولكنني فعلت وأنا على أبواب مستشفى الحجر الصحي في مطروح".

الطبيبة سمر مزروع استقبلت في مستشفى النجيلة 4 حالات إيجابية كانت تتابع حالتهم بشكل دوري حتى شُفي منهم حالتين، مختتمة حديثها بطلب شيء واحد فقط وهو عند عودتها من الحجر الصحي، يتم تسهيل نقلها من مستشفى الساحل التعليمي في شبرا إلى مستشفى المنصورة أو طلخا حتى تتمكن من رعاية والدتها، كما تريد توفير الدواء الذي تصرفه شهريًا ويحتاج إلى موافقات من لجان عليا تقر بحاجتها إلى الدواء فعليًا، وأخيرًا الدعاء لكل أطباء مصر الذين يواجهون الموت كل دقيقة.
ـ حسام: أتمنى أن ينتهي هذا الكابوس كي تجف دموع والديا

وصف حسام حسن سيد، طبيب في الحجر الصحي بالإسماعيلية، بتكليفه كواحد من الفريق الطبي الذي سيذهب إلي محافظة الإسماعيلية؛ كي يشكلوا حائط صد أمام الوباء؛ لمنع تفشيه في البلاد بالأصعب على الإطلاق، فبدايةً يقول طبيب الحجر الصحي: " التكليف كان أشبه بإرسالنا لخوض حرب ما مع عدو مجهول غير معروف مصدره، ولا تزال أدوات محاربته مجهولة حتى الآن على مستوى العالم، ومع ذلك كان على الفريق الطبي سرعة التحرك لإنقاذ الوطن من المجهول؛ فلربما بذهابنا لم يعد مجهولًا بعد".

يقول الدكتور حسام: "أستطيع تحمل كل الصعوبات والعوائق، ولكن ليس دموع والديا، كل هذه الأحداث التي أُجبرت على خوضها بحكم كوني طبيب في الفترة الزمنية القصيرة الماضية، لم تكن صعبة عليّ بقدر دموع والديا في اللحظات الأخيرة لي قبل المغادرة إلى الإسماعيلية، حاولت الإفلات منهما بصعوبة كبيرة كما طمأنتهم بأنني خضت تجارب أصعب من هذه وعالجت أمراض شديدة العدوى مثلها مثل فيروس كورونا، ولكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل، والآن كل ما أريده هو أن تنتصر مصر على هذا الكابوس، كي تجف دموع والديا".

يوضح "حسام": قبيل اكتشاف مصر الحالات الأولى لفيروس كورونا، كانت هناك أشبه بغرف عمليات لأطباء مصر لدراسة الوباء المستجد، لم يكن هناك سوى القليل من الوقت؛ لأن الفيروس كان حتمًا سيدخل مصر مثلما لم تنج منه أكثر الدول تقدمًا وجمالًا، فعكف عدد كبير من الاستشاريين والأساتذة والأطباء على دراسة كل ما صدر عن فيروس كورونا من مقالات طبية وبيانات وأخبار عابرة، فضلًا عن آخر المستجدات في الدول الموبوءة.

يواصل طبيب الحجر الصحي: " من كل هذه القراءات والاجتهادات شكل الفريق الطبي في مصر بروتوكلين للتعامل مع الفيروس، الأول كان بروتوكولًا وقائيًا كانت معنية به وزارة الصحة أكثر، أما الأخير فكان بروتوكولًا علاجيًا وضعه نخبة من الأطباء لاسيما الحجر الصحي، والذي يشمل نوعية الأدوية التي سيتم توفيرها لمواجهة الفيروس بها، كذا طرق أخذ عينات التحاليل من المريض وعددها وتوقيتها الزمني ومدى تكرارها، ومعايير التشخيص والإجراءات التي تحدد مكوث المريض في الحجر الصحي أو خروجه منه..جميع الآليات التي تضمن التعافي من الفيروس".
ـ ماهر: لا أطلب من الشعب المصري سوى أن يلزم المنزل كي أعود أنا للمنزل

"احنا مصريين منعرفش كلمة صعب أو مستحيل.. مش موجودة في قاموسنا"، هكذا بدأ الدكتور أحمد ماهر، بطل آخر ضمن أبطال الحجر الصحي بمستشفى أبو خليفة في الإسماعيلية، حديثه، مؤكدًا أنه مسئول عن وحدة الرعاية المركزة في المستشفى بحكم كونه طبيب تخدير ورعاية، موضحًا أن هناك عدد من الحالات التي تحولت من إيجابية حاملة لفيروس كورونا إلى سلبية، وتعافت تمامًا بعدما تلقت الرعاية الكاملة في الحجر الصحي وخضعت لبروتوكول العلاج.

لم يكن صعبًا تكليفي بالذهاب إلى الحجر الصحي، يقولها ماهر، فهذا هو عملي وواجبي، ولكن كان الأصعب على نفسي هو فراق والدتي، لاسيما وأن والدي متوفي وأنا أعزب فتربطنا علاقة قوية أنا وأمي ولم أعتد على فراقها لمدة طويلة وهي كذلك وتضجرت كثيرًا ورفضت قراري بقلبها ووافقت عليه إعمالًا بمصريتها، ولا أطلب من الشعب المصري غير أن أعود لأمي، فهو من في يده حسم الأمر وإنقاذنا جميعًا من الهلاك إذا اتبع الإجراءات الاحترازية وقرارات القيادة المصرية.

وعن أبرز المهام الصعبة التي يخوضها جيش الأطباء المصري الآن، يقول الدكتور ماهر: "ويمكن القول بأن أبرز الصعاب التي واجهتها في هذه التجربة هي التعامل في الحجر الصحي؛ لأن غالبية الأطباء وأنا واحد منهم لم نُدرب على العمل في الحجر الصحي، فكانت تكمن الصعوبة في الخوض في تجربة هى الأولى من نوعها ليس في مصر فقط وإنما في العالم أجمع، فضلًا عن العمل في الحجر الصحي في ظل هذه الأجواء".

ـ عبد الرحمن: تعاهدنا أنا وزملائي على عدم مغادرة العزل وإكمال المسيرة سويًا

وفي مستشفى إسنا التخصصي الجديدة، إحدى المستشفيات التي خُصصت للعزل أو الحجر الصحي في محافظة مطروح، كان هناك عبد الرحمن خيري، أحد الأطباء الذي تم تكليفه بالذهاب إلى جنوب الجمهورية حتى محافظة الأقصر، ليكون واحدًا ضمن الفريق الطبي في مستشفى الحجر الصحي بالحافظة، الذي بدأ حديثه قائلًا: " لا شيء في الحياة أسوأ من مرارة الانتظار، ومرت عليّ ساعات الرحلة وكأنها سنوات، مثلت تلك الرحلة أصعب رحلات حياتي لطالما أحببت السفر، وفقد السيطرة بعض الشئ على مشاعري كنت قلقًا للغاية، ومع قضاء أول ليلة في الحجر الصحي والتعرف على الحالات التي شُفي منها عدد كبير.. زالت كل هذه الصعاب النفسية".

تعاهد الدكتور عبد الرحمن، هو وزملائه في الحجر الصحي بإسنا، أنهم لن يعودوا إلى منازلهم وأسرهم وحياتهم إلا بخروج آخر حالة من المستشفى وبعد إعلان مصر تعافيها من الوباء نهائيًا، معلقًا:" سنستمر في أداء واجبنا وعملنا في الحجر الصحي، على الرغم من أن نظام تكليف الأطباء بمباشرة العمل في الحجر الصحي هو التناوب، أي يستقر فريق ما من الأطباء عدد من الأيام أو الأسابيع في مستشفى العزل، ويأتي فريق غيره بعد إتمام تلك المدة".
ـ دردير: كانت الليلة الأولى في الحجر الصحي بالمطار مرعبة
مصطفى دردير، طبيب بالحجر الصحي في المطار، يقول: " صعوبة العمل في الحجر الصحي الخاص بالمطار كانت تكمن في كونك حائط الصد الأول الذي يستقبل ويتعامل مع جنسيات من مختلف دول العالم، وكان العمل يسري وفق سيناريوهين لا ثالث لهما، الأول استقبال الرحلة وفحص الحالة الصحية لجميع الركاب، فضلًا عن تحديد ما إذا كانوا حاملون للفيروس ودخولهم سيشكل خطرًا على الجمهورية وفي هذا الوضع يتم عزل كل من على الطائرة، حتى وإن كانت هناك حالة واحد إيجابية، أما السيناريو الآخر هو ضمان سلامة الركاب والسماح لهم بالدخول تحت رعاية صحية مشددة والتأكيد على عزلهم المنزلي".

كانت الليلة الأولى التي قضاها "دردير" في الحجر الصحي بالمطار ليلة لا تنسى، إذ يقول أن أصعب وقت قضاه في الحجر الصحي في المطار هو أول "النوباتجية"، إذ استقبل في هذه اليلة طائرة قادمة من مدينة ميلانو بإيطاليا، كانت تحمل أفواجًا ضخمة من الركاب، وذلك قبل وقف حركة الطيران، معلقًا: " الرحلة كان عليها حالات إيجابية تم إعادة التحليل لهم أكثر من مرة للتأكد من مدى مصداقيته، وتم التعامل معهم وفق التعليمات وأُرسلوا إلى الحجر الصحي، لكن كانت ليلة مرعبة".