رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ أحمد العروسى... تميز بالإقدام وحُسن السياسة



هو الإمام الشيخ أحمد موسى داود، ولقب بـ«العروسى» لانتسابه لقرية «منية عروس»- مركز أشمون- بمحافظة المنوفية. والإمام العروسى هو الشيخ الحادى عشر فى قائمة شيوخ الجامع الأزهر، وهو أيضًا والد الإمام محمد أحمد العروسى الذى اُختير عام ١٨١٨ شيخًا للجامع الأزهر، ليكون بذلك الشيخ الرابع عشر من شيوخ الأزهر، والشيخ أحمد موسى داود هو كذلك جد الإمام العشرين فى سلسلة شيوخ الأزهر، وهو الإمام الشيخ مصطفى محمد العروسى، الذى تولى مشيخة الأزهر عام ١٨٦٤.
كثيرة هى المواقف التى شارك فيها الإمام العروسى، وعبرت عن الإقدام والشجاعة وحُسن السياسة، وسوف نعرض موقفًا يؤكد هذا القول، حدث ذلك الموقف يوم الثلاثاء الموافق ٤ أغسطس ١٧٨٨، عندما ثار جماعة الشوام وبعض المغاربة بالأزهر بسبب الجراية «وهى المقرر من الرواتب أو الخبز»، فأغلقوا باب الجامع ومنعوا الشيخ العروسى من الخروج. يقول الجبرتى: «فرجع إلى رواق المغاربة وجلس به إلى الغروب، ثم تخلص منهم وركب إلى بيته»، فلما كان اليوم التالى خرج الثائرون من طلبة الأزهر إلى السوق، وأمروا التجار بغلق دكاكينهم، وعندما ذهب الشيخ مع بعض شيوخ الأزهر إلى الحاكم العثمانى للبحث عن حل للمشكلة، طلب منه الحاكم تسليم مثيرى الفتنة من طلبة الأزهر ليؤدبهم وينفيهم، فرفض الشيخ ذلك الطلب، وامتنع لأيام عن دخول الأزهر، وذهب لإلقاء دروسه فى المدرسة الصالحية التى أنشأها الملك الصالح نجم الدين أيوب عام ٦٤٠ هجرية بخط بين القصرين، ولم يلبث الأمر إلا قليلًا، حتى تدخل ناظر الجامع «على بك الدفتردار» ونجح فى حل المشكلة. هذه المواقف أضفت على الإمام العروسى مهابة وقبولًا لدى العامة والخاصة، وضاعف من ذلك ما أثر عن الشيخ من خصال قال عنها الجبرتى: «وكان رقيق الطباع، مليح الأوضاع، لطيفًا مهذبًا، إذا تحدث نفث الدر، وإذا لقيته لقيت من لطفه ما ينعش ويسر». إن عالمًا كالإمام العروسى تبوح ترجمته وأخباره المتناثرة فى مصادر التاريخ بموسوعيته، لا بد أن يقرض الشعر على جارى عادات مثقفى عصره، وهو ما يتضح لقارئ ترجمته التى أثبتها الجبرتى بالجزء الرابع من تاريخه، حيث سجل نماذج من قصائد نظمها الإمام العروسى، وكانت جميعها من قبيل التقريظ والمدح لشيوخ العصر وأعلامه، والبيتان التاليان من قصيدة فى تاريخ الجبرتى نظمها الإمام فى مدح الأستاذ «عبدالخالق وفا» أحد علماء العصر، وفى حديث الجبرتى أنه عبدالخالق أحمد عبدالمطلب محمد تاج العارفين، والمنتهى نسبه إلى سيدى عبدالقادر الحسنى الجيلى المصرى ويعرف بابن نبت الجيزى:
شموس لها أفق السعادة مطلعُ.. أبت فى سوى برج السعادة تطلعُ
معارج فضل ليس يرقى سنامها.. سوى مفرد فى عزه ليس يشفع
لم يُعرف بأكثر مما أثبت الجبرتى فى تاريخه من مقطوعات من قصائد أو أبيات نظمها الإمام، وقد نقل الجبرتى عن الإمام العروسى: «وسمعته مرة يقول: ما زلت أنظم الشعر حتى ظهر الشيخ قاسم الأديب ببلاغته، فعند ذلك تركته». وبالرغم من أن أحدًا لا يعلم الآن هل ترك الإمام العروسى ديوان شعر كالذى خلفه أستاذه الإمام الشبراوى أم لا؟ إلا أن الأمر المؤكد فى شأن شعره، يتمثل فيما رواه الجبرتى عن توشيح نظمه الإمام العروسى وطبقت شهرته الآفاق، وقال الجبرتى عن ذلك التوشيح:
ماس غصن البان زاهى الخد وتثنّى معجبا
بين أفنان النقا والرند وأثيلات الرُّبا
خلت بدرًا فوق غصن مائس
قد أمالته نُسيمات الصّبا
وهو مشهور غاية الإشهار فى الأغانى والأوتار. ومما يؤسف له حقًا اكتفاء الجبرتى بهذين البيتين فقط من ذلك التوشيح، الذى لم تسفر جهود البحث عن بقيته عن أى شىء، ولكنهما يكفيان مع ما أثبت الجبرتى من شعر الإمام العروسى، لبيان صدق موهبته وجزالة شعره، الذى تميز بالسهولة والرصانة وقلة التكلف فى ألوان البديع، مما كفل له الذيوع على ألسنة الناس وحناجر أهل الغناء.
توفى الإمام العروسى يوم ٢٤ مارس ١٧٩٤، وخرجت جنازته من الجامع الأزهر فى مشهد حافل، ورثاه الشاعر إسماعيل بن سعد الشهير بالخشاب «توفى ١٢٣٠هجرية»، بأبيات منها:
إمام هدى للهدى كان انتدابه.. فلا كان يوم فيه قامت نوادبه
أغرُّ سنى شمس الضحى دون وجهه.. وفوق مناط الفرقدين مراتبه
وكما يقول الكاتب المصرى د. نبيل حنفى محمود: تلك كانت شذرات من سيرة إمام جليل من شيوخ الجامع الأزهر الشريف، تكشف للقارئ الآفاق الرحبة لما تجمل به من شعر رائق رددته الألسن والحناجر، وما زال البعض منه يصافح الأسماع حتى أيامنا، ليكشف زيف وضلال البعض من دعاة آخر الزمان، ممن لم تستوعب آذانهم الصم قيم التسامح والمحبة التى تبوح بها سير الرعيل الأول من شيوخ الأزهر العظام.