رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ملحمة صينية



آلاف أصيبوا أو ماتوا. وجاءت نتيجة الصفر، نتيجة الصفر: صفر إصابات جديدة وصفر وفيات، لتقول بوضوح إن أدوات الاحتواء والعلاج التى استخدمتها السلطات الصينية كانت ناجحة. وأثبتت، أيضًا، أن الجهود الرسمية لم تكن ستحقق ذلك النجاح لولا انضباط الشعب الصينى والتزامه، أو إلزامه، بالاستجابة للتعليمات.
من مدينة ووهان، التى كانت موبوءة، ظهرت بشائر هزيمة فيروس «كوفيد ـ ١٩» أو كورونا المستجد، ونشرت وسائل إعلام صينية، منذ أيام، صورًا لإغلاق المستشفيات الميدانية، المؤقتة. ثم أعلنت السلطات عن أنه يمكن لبعض العاملين فى الصناعات الحيوية العودة إلى أماكن عملهم فى المدينة. وأمس، الخميس، أعلنت الصين عن أنّها لم تسجّل خلال الساعات الأربع والعشرين السابقة أىّ إصابة جديدة «محلية المصدر» بالفيروس مقابل ٣٤ إصابة لدى أشخاص وافدين، التقطوا العدوى بفيروس كورونا أثناء وجودهم خارج البلاد.
مع ذلك، رأت وسائل إعلام غربية، من بينها جريدة «لوفيجارو» الفرنسية، أن التجربة الصينية لا يمكن استنساخها، ولخّصت أسباب نجاحها فى أن نظام الصين السياسى، لا يترك أى مجال للحريات ويجبر الشعب على قبول تدابير مشددة وصارمة، لن تكون مقبولة فى الغرب!
فعلًا، لم يكن صعبًا على الدولة ذات القبضة الحديدية أن تتخذ إجراءات صارمة لمنع تفاقم الموقف، دون أن تحتاج إلى وقت وجهد كبيريْن لتهيئة الرأى العام لتقبل ذلك. وكان أبرز تلك الإجراءات إغلاق المدارس، وإلغاء جمیع الأنشطة الریاضیة والثقافیة. وفرض حالة الحجر الصحى الصارم على أكثر من ٥٦ مليون مواطن صينى، هم سكان مقاطعة هوباى، التى كانت عاصمتها مدينة ووهان، ذات الـ١١ مليون نسمة، هى بؤرة تفشى تلك السلالة الجديدة من «كورونا»، والتى تم إغلاقها على من فيها بدءًا من ٢٣ يناير الماضى.
مدينة ووهان، تخضع منذ ذلك اليوم، لإغلاق تام: ممنوع الدخول إليها أو الخروج منها، والتزم سكانها منازلهم، طوعًا أو كرهًا، أى «بمزاجهم أو غصب عنهم»، بمجرد أن أصدرت السلطات قرارًا بذلك، واستثنت فقط مَن يحمل إذنًا رسميًا بالدخول أو الخروج. كما منعت السلطات كل الرحلات الجوية إلى المدينة، وأوقفت حركة القطارات وأغلقت الشوارع، ما خفف من انتشار الفيروس، لكنه لم يوقفه. ثم أرسلت بكين عددًا من كبار العلماء والمتخصصين فى مجال الفيروسات إلى المدينة، ليتولوا إدارة المعركة، معركة احتواء الفيروس. ودفعت بالعاملين فى مجال الرعاية الصحية من جميع أنحاء البلاد إلى مركز تفشى المرض.
اللافت، أيضًا، هو أن جيش التحرير الشعبى الصينى تصدر خط مواجهة الفيروس. فمع بداية انتشار الفيروس فى مدينة ووهان، أرسل إلى المدينة نحو ٤٥٠ موظفًا صحيًا عسكريًا، لديهم خبرة فى مكافحة فيروسات سابقة كـ«سارس» و«إيبولا». ثم قام بتوزيع أطقمه الطبية ونشر أفراده فى عشرات المدن الصينية. وأخيرًا، نجح فريق من الباحثين يقوده تشين واى، من أكاديمية العلوم الطبية العسكرية، فى تطوير لقاح لمحاربة الفيروس.
لم تتردد السلطات الصينية فى إغلاق آلاف المصانع والمؤسسات الكبرى، خاصة فى بؤر العدوى، للسيطرة على انتشار الفيروس. وكما ساعدها فائض قوتها الاقتصادية واحتياطاتها النقدية والمالية، ساعدتها، أيضًا، قدراتها التكنولوجية، التى أسهمت بدرجة مذهلة فى مواجهة الفيروس وفى حماية العنصر البشرى من التعرض لكثير من مصادر الخطر، وفى تحسين فعالية وكفاءة خطة مكافحة الوباء.
الروبوتات الذكية تولت تعقيم المؤسسات والشوارع وقدّمت الوجبات الغذائية للمصابين، والكاميرات الحرارية عالية الدقة كشفت عن الحالات المصابة عن بعد. وطائرات مسيرة «درون»، قامت بنقل العينات الطبية من المرضى إلى المراكز البحثية وأماكن التحليل. وتطبيق على التليفون المحمول يُصنَّف الناس إلى ٣ ألوان حسب مدى خطورة انتقال العدوى منهم إلى غيرهم؛ فأصحاب اللون الأخضر يُسمح لهم بالذهاب إلى الأماكن العامة المختلفة، والأصفر، يوصى أصحابه بعدم مغادرة المنزل لمدة أسبوع، والأحمر يعنى قضاء أسبوعين فى الحجر الصحى. كما أتاح هذا التطبيق للشرطة معرفة ما إذا كان هناك أشخاص بحاجة إلى حجر صحى أم لا، وما إذا كانوا يشكلون خطرًا على الآخرين أو على أنفسهم فقط.
كما أشرنا، منذ سطور، زعمت وسائل إعلام غربية، من بينها جريدة «لوفيجارو» الفرنسية، أن التجربة الصينية لا يمكن استنساخها، لأن القيود التى يفرضها نظام الصين السياسى لن تكون مقبولة فى الغرب. غير أن فرنسا اضطرت إلى نشر ما لا يقل عن مائة ألف رجل شرطة واستعانت بالجيش، وفرضت غرامة مالية تصل إلى ١٣٥ يورو على كل من يخالف التدابير الاحترازية. والأكثر من ذلك هو أن الحكومة الفرنسية تسعى لفرض «حالة طوارئ صحية»، تتيح لها أن «تصادر كل ما تراه مناسبًا من سلع وممتلكات وخدمات تراها ضرورية لمواجهة الكارثة الصحية التى تعيشها البلاد».