رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كفكف دموعك يا نبى


قرة عين أبيك أنت يا إبراهيم، وقرة عين أمك، وحبيب إخوتك، تتذكرك أمك يوم أن ولدتك، وتذكر حين حملتك، كنت «لحمة طرية» ولكن جمالك أذهلها فأخذت تبسمل، رآك أبوك فسُر قلبه وانشرح، وما له لا ينشرح وقد مات من قبل ولدٌ له فبكاه.
وهاهو الله يهبه إبراهيم، ما هذا النور الذى غشى كل من رأى ذاك الوليد! وما هذه الطلعة البهية، سبحانك أنت القائل «لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم» ومرت الأيام والوليد يكبر سريعًا، يبهج خاطر أبيه، ويدغدغ مشاعره، حتى بلغ ستة عشر شهرًا، إنه الآن يقف مستندًا على الأشياء، ويتحرك فى كل مكان، وينغنغ بصوته وهو ينادى أمه ويقبل على أبيه، كانت أمه تلاعبه وتناغيه فكان يرد عليها بصوت فيه تطريب يشنف الآذان، وكان أبوه يهدهده وهو به فرح، ما أعظم فرحة الأب حين يولد له الغلام بعد أن مات غلامه الأول، لا أظن أن أحدًا سيمارى فى أن هذا الأب الرفيق الحليم قد فاضت عيناه بالدمع حين مات غلامه الأول «القاسم» ولكن الحمد لله، نال العوض حينما ولدت له زوجه خديجة البنات، وقد أحبهن وشغف بهن، وها هو الآن ونحن فى العام الثامن من الهجرة يستقبل من زوجه مارية القبطية بنت شمعون الولد فسماه إبراهيم، وإبراهيم هو أبوالأنبياء، وبهذا الاسم يعرف العالم أن رسالة رب العالمين واحدة، هى رسالة الإسلام، أى التسليم والخضوع لله، وحده لا شريك له، وفى الحديث الشريف يقول رسول الله عليه الصلاة والسلام «ولد لى ولد فسميته باسم أبى إبراهيم» ولكن ماذا فعل الرسول، صلى الله عليه وسلم، حين وصلته البشرى من القابلة سلمى التى تولت عملية الولادة؟ وهب الهدايا لمن بشروه، وحمل الغلام، والغلام يتحرك بين يديه، وقد رآه الصحابة وهو يذرف الدموع حينما حمل ابنه، أفلا يبكى صاحب القلب الرقيق الرفيق فرحًا؟ إى والله يبكى ويذرف الدموع، فالدموع تذرف فى الفرح والحزن، هكذا خلقنا الله.
نعود إلى الوليد إبراهيم الذى أصبح قادرًا على الحركة استنادًا على الأشخاص والأشياء، ثم على الحركة وحيدًا يسعى للحفاظ على اتزانه، ثم إذا به بسم الله ما شاء الله ينطلق وحده، ولِمَ لا؟ وقد تعدى العام بأربعة أشهر كوامل، لاشك أن من وقت قدرته على الحركة وحيدًا والبيت قد اشتعل حماسًا وبهجة، فلك أن تتخيل حال غلام فى هذه السن فى بيت يكثر زواره وعمّاره، ولك أن تتخيل سعادة الأب وهو يرى ابنه يملأ الدنيا بهجة، ولكن الله كان قد قدّر قدرًا، وهو القادر القدير، ولا يقدر على الروح إلا الذى خلقها، هو وحده الذى يملك نزعها، لا مرض، ولا بشر، ولا غيرهما، عرض للغلام عارض، ويبدو أنه أصيب بالحمى أو غيرها، إذ جاء أبوه عليه الصلاة والسلام إليه وهو يجود بنفسه فى حجر أمه، فنظر إليه نظرة حزن لو وزعت على العالم لكفته، ثم جلس وقد أخذ غلامه ووضعه فى حجره ثم قال لابنه المحتضر وهو يبكى بكاءً كأزيز المرجل: «يا إبراهيم، لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق أولنا، لحزنا عليك حزنًا هو أشد من هذا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكى العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب‏» ما هذه اللفتة الغريبة، وهو فى قلب الحزن لا تفوته أحزان الأم فيتحدث مع ابنه الذى كادت روحه أن تفيض بلغة تفهم الأم مارية القبطية معناها لأنها تربت عليها، وكأنه كان يعلمها، حتى وهو فى حزنه، وهى فى حزنها يعلمها ويعلمنا، يقول: «لا نقول ما يسخط الرب» ولله الألوهية والربوبية، فكان خطاب النبى ساعتها بصيغة الرب، لأن الكلمة الغالبة على المسيحيين بخصوص الإله هى «الرب» ولأن الربوبية متعلقة بالأمور الكونية كالخلق، والإحياء، والإماتة، ونحوها، فنعلم نحن، وتصبر مارية.
حملوك يا إبراهيم إلى القبر، حملك النبى، صلى الله عليه وسلم، ثم حملك الفضل بن العباس ثم أسامة بن زيد، وواروك التراب، ثم قام النبى ليرش الماء على القبر، لما كان ذلك؟! ألتكون التربة لينة؟! أهى رقة فى قلب الأب دفعته إلى تليين التربة التى تحوى جسد غلامه؟ أم هو الماء الذى كان منه كل شىء حى؟ فليوضع إذن ماء الحياة على قبر ابن النبى، كل ذلك ودموع الرسول، صلى الله عليه وسلم، تفيض من الحزن، أيها الإنسان إنك قد تتغلب على حزنك، وتتجاوزه، إلا أن تجاوز الحزن لا ينفى الألم، ولا يمنع الدمع، وحين يدخل إلى بيته يجد زوجته مارية جالسة متكومة على نفسها وكأنها تبحث عن صغيرها لتحتضنه، فيجلس على الأرض صامتًا ودموعه تحكى حاله.
هل تعرفون ما هو أثقل شىء فى الوجود؟ ليس الحديد ولا الجبال، ولكن أثقل شىء فى الوجود هو نعش الابن حينما يحمله الأب، هذا النعش لم يكن ثقيلًا على يد النبى صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان ثقيلًا شديد الوطأة على قلبه، ولكن هذا الحزن لم يكن هو الأول، ولم تكن هذه الدموع هى الأولى، فلا أظنه نسى أبدًا دموعه على ابنه الأول القاسم، أما دموعه على زوجته خديجة فقد كانت تتحدث عن نفسها، ياله من عام، أطلقوا عليه عام الحزن، والعام فى اللغة يطلق على الحول من الزمن الذى يمر برخاء، أما الحول الذى يمر فى شدة فتطلق عليه العرب «سَنة» لذلك قال الله سبحانه فى القرآن عن آل فرعون حين طالهم العذاب إنه «ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات» ولذلك مكث نوح ألف حول فى قومه، قال عنهم الله «فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما» أى ألف كلهم عذاب إلا خمسين فقط بعد الطوفان حينما نجا هو ومن آمن معه، فقط هذه الخمسون كانت رخاء، فلماذا أطلقوا على السنة التى ماتت فيها خديجة الزوجة والعم أبوطالب، بـ«عام الحزن» أيكون الحزن رخاءً، نعم الحزن تصفية للنفوس وتهذيب للأرواح، من لم يحزن لم يرتق، الحزن ارتقاء، وهو من خصوصيات بعض عباد الله، يعيشون ووجوههم باشة وقلوبهم حزينة، فأمنياتهم ليست فى الدنيا ولكن فى يوم الالتقاء بالله رب العالمين، وما الدنيا إلا متاع الغرور، لذلك يقتل الله فى نفوس بعضنا فتن الدنيا، ليكونوا لله وحده، يموت الابن والزوجة والعم النصير، فإذا انقطعت الدنيا ولف الحزن قلب الرسول، صلى الله عليه وسلم، كان الالتقاء، وقد التقى الرسول بالله رب العالمين فى المعراج فكان قاب قوسين أو أدنى، «أفتمارونه على ما يرى».
كان بكاء الرسول، صلى الله عليه وسلم، على زوجته خديجة هو بكاء الصَديق والرفيق والمحب، فقد شغف بها حبًا، رسول الله يحب؟! نعم فالرسول نفسه هو الحب، رسالته حب، وشفقته على قومه حب، وما الإسلام إلا الحب، وبكى أيضًا على عمه أبى طالب، الكافر الذى أواه ونصره، كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يحب عمه حبًا جمًا، حتى إنه لكثرة عيال عمه وشفقته على قلة مؤنته أخذ منه ابنه على كى يربيه له، فتربى على فى بيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهل منع كفر أبى طالب ابن أخيه محمد من حبه، لا والله، أقول ذلك لمن يحولون دعوة الحب فى الإسلام إلى دعوة كراهية، فيحذرونك من حب الناس ولو كانوا عصاة بمقولة إن المرء يحشر مع من يحب! حب من تشاء فالقلب ليس له حاكم، والحب لا يأتى بالأوامر، إنما هو هبة من الله لمن يحبهم، «اللهم إن هذا قسمى فيما أملك فلا تحاسبنى على ما لا أملك»، هكذا كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، يقول، ومن بعد هذا البكاء الذى جعل من هذه السنة عامًا للحزن، كانت المكافأة، فقد تمت تصفية النفس كأعلى ما تكون التصفية، والمُصفى هو الله سبحانه، وأداة التصفية هى الحزن الذى اعتمل فى قلب الرسول والدموع التى فاضت من عينيه، فأصبحت نفس الرسول مهيأة للانطلاق فى آفاق رحيبة من الكون، تأهلت للاختراق، هكذا قال جبريل عليه السلام فى المعراج: تقدم أنت، فلو تقدمت أنا لاحترقت، ولو تقدمت أنت لاخترقت.
كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، يعتريه الحزن خوفًا على أحبابه وشفقة عليهم، هو الحب الذى يدفعه لذلك، وهو الحب الذى يقطع نياط قلوبنا حينما يُلم بأحبابنا ألمٌ أو حين يقدر الله فراقنا لهم، من أجل هذا بكى الرسول، صلى الله عليه وسلم، حينما زار صديقه وناصره وحبيبه سعد بن عبادة، فوجده يتألم وقد غشى عليه من فرط الألم، فبكى بدمع سخين، فلما رأى القوم بكاء النبى بكوا، بكى النبى حزنًا على مرض صاحبه وعلى الألم الذى اعتراه، وكأنه حين بكى كان يتذكر من مات من أصحابه وأبنائه وأهله، فالدمع يستدعى الذكريات، ومن ذكريات الرسول، صلى الله عليه وسلم، ذلك اليوم الذى استشهد فيه عمه حمزة بن عبدالمطلب، أسد الله، الذى كان صديقًا للرسول وحبيبًا له، كان قتله فى غزوة أحد، وكانت قتلته شنيعة، إذ وجده الرسول ببطن الوادى وقد بُقرت بطنه، وأُخرج كبده، فلما رأى النبى ما أصاب عمه حمزة بكى، ثم لم يلبث إلا وقد شهق من كثرة البكاء، ثم قال وهو ينهنه: «أى عم، رحمك الله، فقد كنت وصولًا للرحم فعولًا للخيرات».
والدمع يجرى وراء الدمع ويمزق نياط القلوب، ودموع محمد بن عبدالله غالية، فهى دموع النبى، ولكنه لم يختزنها أو يحبسها، بل كان يجود بها فى مواقف الحزن، وأى مواقف تستحق البكاء أكثر من مواقف الموت، فبكى يوم وفاة ابنته أم كلثوم، وجاد بالدمع يوم وفاة سِبطه ابن ابنته زينب، وبكى حين زار قبر أمه، تلك الأم التى ماتت أمامه وهو بعد طفل لم يشب عن الطوق بعد، وبكى وبكى وبكى، ومات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبكينا عليه، ولكن الله كان قد قال لنا «وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم».
ومرت العقود والقرون والأجيال، وأصبحنا فى زمننا هذا، فإذا ببعضنا ينقلب على أعقابه، فيقتل أهل وطنه، ويذبحهم، وينكل بأجسادهم، يفعل كل هذا وهو يرفع راية يقول عنها إنها راية رسول الله، والله ما كان رسول الله كما صوروه فى أذهانهم، بل كان أرق الناس قلبًا ومشاعر، وأكثر خلق الله تهذيبًا، تُرى لو كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، حيًا بيننا أكان يبكى علينا أم يبكى منا؟ ولله الأمر من قبل ومن بعد.