رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يوم جديد

جريدة الدستور



- صورةٌ قاتمةٌ وهزيمةٌ أُخرى للشَّمسِ، وانتصارٌ للظَّلام، ليرفع راياته على الكون لليلٍ طويلٍ، ولكِنَّه مختلف، ليل ليس كأى ليل، تنبئ عنه مقدماتُه الَّتى ازدادت قتامةً على غير العادة، وحتى أضواء الأعمدة والمصابيح والمحال ارتعشت وتوتَّرت حتى اختفت أضواؤها، ولم يسمع لها أى أزيز، بل بالأحرى غرقت المدينة العامرة بسكَّانِها وحيواناتها وسيَّاراتها وحياتها النهارية فى صمتٍ وسكون.
- توتَّرت أعصاب الناس جميعًا، وأخذوا يفكِّرون كيف سيقضون هذه الليلة؟، إذ صحَّت أخيرًا تنبؤات العرَّافات على أجهزة التلفاز، وأكدَّتها الشائعات على مواقع التواصل الاجتماعى، فأخذها البعض بسخرية، وأخذها البعض على محمل الجد، والبعض لم يلقِ للأمر بالًا.
- وفى الشوارع والحارات والأزقَّةِ الضيِّقة حلَّ السكون ضيفًا ثقيلًا على الأنفاس الَّتى أخذها الناس بصعوبة، يحيط بالمنازل والبيوت الصغيرة التى انطوت على نفسها وتلاصقت أكثر، لتمنح بعضها بعضًا الأمان، لعلَّه يبث بعض الدفء للساكنين بداخلها والذين ارتعشت أوصالهم وأطرافهم، فهرب الأطفال لنومٍ عميقٍ بعدما رأوا نظرات الضياع والارتباك على الكبار، وأخذت نشوة التحدى تملأ المراهقين ليندفعوا، والشباب بفتوتهم وعتيهم للنزول إلى الشوارع والميادين غير آبهين بالظلام الذى يسود ويستشرى، وأشعلوا بطارياتهم لعلَّها تشق طريقًا للنور فى عتمة الظلام، واندفعوا فى غير هدى، واشتعلت الأضواء تنير أمامهم لعدة أمتار. ولمَّا رأوا نجاح ظنِّهم انتشر الصخب وعلت أصواتهم بالهتاف ومعايرة الكبار على جبنهم وتخاذلهم، ودخلت الأصوات المنازل مرة أخرى تجلد الكبار تأنيبًا وتعذيبًا.
واستمرت الأصوات فى العلو والارتفاع حتى تعب الشباب فى أنحاء المدينة، وخرج الآباء ينادون أبناءهم ليرجعوا ويحتموا بالبيوت محذرين من ذلك النصر الزائف، ولكنَّهم أبوا واستكبروا فى عودة لمشهد سفينة نوح الذى نادى ابنه.
- وتسارعت عقارب الساعة لتشير إلى منتصف اللَّيل الذى يزداد قتامة وسوادًا حتى ضعفت البطَّاريات والإنارة، فبحث الجميع شحنها مرة أخرى، ولكنَّهم لم يجدوا مصدرًا للشَّحن، وتراجعت الأضواء عن الأمتار المنيرة لتحل محلَّها الأمتار المظلمة حتى أعتمت الرؤية وانعدمت، فتخبَّطوا فى بعضهم بعضًا ولجأوا إلى حواسهم المتبقية فى محاولة للعودة إلى منازلهم وأهاليهم، ولكنَّهم لم يجدوا دالة للطريق أو إشارة، وتملَّكهم الخوف فاندفعوا رجمًا بالغيب لكلِّ بابٍ قابلوه يطرقونه ويدفعونه ليدخلوا منه إلى البيوت والعمائر، واختلط الأمر ودبَّ الفزع فى ساكنى البيوت، فأخذوا يدافعون عنها بكل قوةٍ وشراسة، واستَّلوا ما تقع عليه أيديهم للدفاع والقتل، لتُختَرَقَ الأجساد وتتهشم العظام بين الفريقين.
ونشبت المعارك، وعلا الصراخ فى كل مكانٍ بين العائدين وساكنى البيوت الذين لم يتعرفوا أبناءهم حتَّى، وشعر الجميع بلزوجة الدماء المهرقة على درجات السلالم وخيوطها المنسابة فى الشوارع لتصبَّ فى برك من الدماء.
ولم تتوقف العقارب لحظةً عن نهب وسرقة الوقت فى مطاردةٍ أزلية، الخاسر فيها هو الزمن الذى يتقلص نحو النهاية.
- خفتت الأصوات رويدًا رويدًا، ولم يعد يُسمَعُ على مرمى السمع والبصر إلا آهةٌ خافتةٌ هنا أو تنهيدةُ ألمٍ هناك أو صرخةٌ لإزهاق روحٍ إلى باريها.
وهدأت الحركة فى برك الدماء لتتجلط على الأرض بعد انتهاء الجميع إلى الموت.
- واستيقظ الأطفال صباحًا والحياة تدب بحركاتها فى الأنحاء، ويغمر نور الشمس الدنيا كلَّها ليومٍ جديد.