رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بيريسترويكا كنسية


«البيريسترويكا» هى إعادة البناء، فلماذا القبطية الأرثوذكسية بحاجة إليها؟ وما جوهرها وأهدافها؟ وما الذى ترفضه؟ وما الذى تستجده؟ وكيف تتقدم؟ وماذا يمكن أن تكون نتائجها للكنيسة وللعالم؟
هى وغيرها أسئلة يراها «د. م. ماهر عزيز» الكاتب والباحث أنها باتت مشروعة يبحث الكثيرون عن أجوبة لها الآن: الشعب والإكليروس والرهبان.. فبعد ٢٠١٨ سنة من ميلاد السيد المسيح، ثم تأسيس الكنيسة فى القرن الأول الميلادى، صارت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية يراها مؤلف كتاب «بيريسترويكا كنسية» بحاجة ماسة لإعادة البناء فى كل شىء: روحى أو زمانى.
وبداية- بمناسبة الحديث عن «الإصلاح» و«إعادة البناء»- أود توجيه حديثى إلى الذين يرفضون مصطلح «الإصلاح» عند الاقتراب من الحديث عن إدارة وتوجهات المؤسسات الدينية ونظم تعليمها وعلاقاتها مع تابعيها.. أذكرهم بموقف السيد المسيح، وكيف أدان المؤسسة الدينية عندما رأى كهنة الهيكل يبيعون ويشترون داخل الهيكل ويغيرون العملات ويتحكمون فى البشر، فقال قولته الشهيرة: «بيتى بيت الصلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص»، وقال أيضًا موجهًا حديثه للكهنة اليهود: «تحملون الناس أحمالًا عثرة ولا تحركونها بإصبعكم»، ولقد كان صدامه مع رجال الدين أكثر كثيرًا من صدامه مع رجل الشارع العادى، بل إنه لم يصطدم إطلاقا مع البسطاء.
ولقد رفض السيد المسيح وجود مؤسسة دينية تستغل فى التجارة واستغلال المكان المخصص للروحانيات وفى زمن ممارسة العبادات، بل استغلال رجل الشارع العادى وتصعيد أعباء الطقوس المبالغ فى أمور ممارساتها ونواميسها وطقوسها، فهل كان السيد المسيح يطلب وهو يتحدث عن الكنيسة أن تتحول الكنيسة إلى صورة طبق الأصل من المؤسسة الدينية اليهودية التى قامت بمحاكمته؟، لكن ما حدث هو عكس ما تخيله السيد المسيح، إذ تحالفت الكنيسة مع السلطات السياسية عبر التاريخ، وصار لها النفوذ الصارم على المؤمنين.
يحكى لنا الكاتب الكبير والفيلسوف الدكتور «مراد وهبة» حول بدايات علاقته بصديقه «نظير جيد» قبل رهبنته وصولًا لسيامته باسم «شنودة الثالث» البطريرك، يقول: «البحث‏ ‏عن‏ ‏الطريق‏ ‏استغرق‏ ‏حواراتنا- ‏نظير‏ ‏جيد‏ ‏وأنا‏- ‏فى‏ ‏مقهى محطة‏ ‏مصر‏ ‏مكاننا‏ ‏المختار‏. ‏وكان‏ ‏السؤال‏: ‏من‏ ‏أين‏ ‏نبدأ؟‏ ‏وكان‏ ‏الجواب‏: ‏من‏ ‏المجمع‏ ‏المقدس‏ ‏المكون‏ ‏من‏ ‏أساقفة‏ ‏ومطارنة‏ ‏هم‏ ‏فى‏ ‏الأصل‏ ‏رهبان‏ ‏وعددهم‏ ‏محدود‏ ‏وغير‏ ‏قابلين‏ ‏للعزل‏، ‏وبالتالى‏ ‏فإنك‏ ‏إذا‏ ‏أردت‏ ‏التخلص‏ ‏من‏ ‏أحدهم‏ ‏بسبب‏ ‏فساد‏ ‏ما‏، ‏فعليك‏ ‏الانتظار‏ ‏حتى‏ ‏يغادر‏ ‏هذه‏ ‏الحياة‏ ‏الدنيا‏، ‏خاصة‏ ‏أن‏ ‏كتاب‏ ‏الدسقولية‏ ‏الذى‏ ‏هو‏ ‏عبارة‏ ‏عن‏ ‏قوانين‏ ‏الكنيسة‏، ‏به‏ ‏عبارة‏ ‏تقول‏: ‏رئيس‏ ‏شعبك‏ ‏لا‏ ‏تقل‏ ‏فيه‏ ‏كلمة‏ ‏سوء‏. ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فالبديل‏ ‏الصالح‏ ‏ليس‏ ‏مضمونًا‏ ‏فى‏ ‏مناخ‏ ‏كنسى محكوم‏ ‏بظاهرة‏ ‏السيمونية‏.‏ ومن‏ ‏هنا‏ ‏كان‏ ‏السؤال‏: ‏هل‏ ‏من‏ ‏طريق‏ ‏آخر؟‏ ‏وكان‏ ‏جواب‏ ‏نظير‏ ‏جيد‏: ‏ثمة‏ ‏طريق‏ ‏آخر‏ ‏وهو‏ ‏مضاعفة‏ ‏عدد‏ ‏أعضاء‏ ‏المجمع‏ ‏المقدس‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏المضاعفة‏ ‏ليست‏ ‏ممكنة‏ ‏إلا‏ ‏بمضاعفة‏ ‏الإيبارشيات‏ ‏وذلك‏ ‏بتقسيم‏ ‏محافظات‏ ‏مصر‏، ‏بذلك‏ ‏يمكن‏ ‏رسامة‏ ‏أساقفة‏ ‏ومطارنة‏ ‏جدد‏ ‏على ‏الإيبارشيات‏ ‏الجديدة‏. ‏ثم‏ ‏استطرد‏ ‏نظير‏ ‏جيد‏ ‏قائلًا‏: ‏ويمكن‏ ‏أيضًا‏ ‏رسامة‏ ‏أساقفة‏ ‏عموم‏، ‏أى ‏أساقفة‏ ‏بلا‏ ‏إيبارشيات‏. ‏وهنا‏ ‏قلت‏ ‏لنظير‏: ‏مثّل‏ ‏لما‏ ‏تقول‏. ‏قال‏: أسقف‏ ‏للتعليم‏ ‏الدينى ‏وأسقف‏ ‏للخدمات‏ ‏العامة‏.‏.».
انتهى الاقتباس من بعض ما كتب فيلسوفنا «مراد وهبة» كنموذج لأفكار لإعادة البناء للكنيسة المصرية، ولا يزال البعض يسأل ويبحث عن تطبيق بعض أطروحات قداسة البابا شنودة الثالث التى طرحها.
وأعود لكتاب «بيريسترويكا كنسية» الصادر حديثًا، ومؤلفه الذى كتب فى مقدمته، والذى قد نختلف مع أطروحاته أو نتفق عزيزى القارئ، لكن من الضرورى تبادل الرأى حولها لأهميتها «لقد عجز الترهل الحالى فى أمور إدارة كنيستنا المصرية عن الدفاع عن أساسيات دوريها الروحى والإدارى، أو الوقوف بحزم أمام الاتجاهات الخاطئة داخل الكنيسة، وساد أسلوب تغطية البعض أخطاء وتجاوزات وافتراءات البعض، بخاصة فى مستوى القادة الروحيين المنوط بهم أصلًا الحفاظ على الأساسيات، وانتشر التسيب فأفسد الانضباط الروحى، ما دامت بعض الإنجازات الشكلية والمنقوصة والمعيبة تتم.. وغالبًا ما انتهكت مبادئ المسيح وروح كلمة الله بين أعضاء مجالس الكنائس وخدام التربية الكنسية والشعب، لا سيما مع انهيار القدوة الروحية فى مستوى الإكليروس، وأصبح العديد من أعضاء المجالس الكنسية والإكليروس وأفراد الشعب فى المواقع القيادية فوق الرقابة والنقد، ما أدى إلى تراجع روحى ملحوظ، وإلى فشل بقدر ما فى العمل الكنسى، وظهر فى مستويات الإكليروس والمجالس الكنسية والخدام والشعب عدم احترام القيم الإنجيلية، وتشجيع الكلام المضلل والشللية، والخنوع والتمجيد للنماذج الضعيفة روحيًا وإداريًا..».
ويؤكد الكاتب فى مقدمته للكتاب أن أفكار الإصلاح وإعادة البناء لا تدفع إليها مجرد الاعتبارات الروحية للكنيسة وحياة المسيحيين فى العالم فقط، إنما يدفع إليها أيضًا ضميرنا المعذب، والتزامنا العنيد بالمثل التى استقيناها من حياة المسيح والكتاب المقدس، وكنتيجة للبحث الكتابى النظرى الذى ألهمنا معرفة أفضل بمقاصد الله، وعزز تصميمنا على رفع رايات إعادة البناء.
ولذا يتعين أن تشكل البيريسترويكا محور الإصلاح والتجديد فى الكنيسة كلها، لأنها تخص مستقبل الأرثوذكسية فى هذا البلد والعالم، بل مستقبل المسيحية قاطبة.. وإلى جزء جديد نطرحه على صفحات جريدتنا الرائعة «الدستور» فى عدد قادم بإذن الله.