رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر وليبيا: تاريخٌ مشترك


العلاقات بين مصر وليبيا ليست فقط مجرد علاقات جوار جغرافى، إنما علاقات تاريخية وثيقة على كل المستويات التاريخية والديموجرافية والاقتصادية، ولن نستطيع أن نتبحر فى طبيعة هذه العلاقات على مر العصور، لأن هذا الأمر يستحق مجلدات، ولكن سنحاول فقط الإشارة إلى أهم ملامح هذه العلاقات.
تعتبر مسألة الحدود من أهم نقاط التوتر والصراع عبر التاريخ، وبصفةٍ خاصة فى التاريخ الحديث والمعاصر، وإذا نظرنا إلى حدود مصر وقارنا، على سبيل المثال، بين طبيعة حدود مصر الشرقية وحدودها الغربية- لا سيما فى التاريخ الحديث- سنلاحظ بشكلٍ عام أن الحدود الغربية تميزت بهدوءٍ نسبى كبير فى أغلب الفترات، بالمقارنة مع الطبيعة الملتهبة للحدود الشرقية؛ إذ جاء الخطر دائمًا من الشرق عبر العديد من الغزوات أو الاعتداءات، والتى ليس هنا مجال الحديث عنها، إذ ينصب تركيزنا على حدود مصر الغربية.
تكاد تُجمِع المصادر التاريخية على أن منطقة برقة، والتى تُشكِل معظم الجانب الآخر لحدود مصر الغربية، كانت تعيش فيها مجموعة من القبائل البدوية ذات صلاتٍ سكانية بالقبائل فى صحراء مصر الغربية، وفى عصر سلاطين المماليك كانت القبائل البدوية فى برقة هى التى تدير شئونها، مع الاعتراف بالسيادة الاسمية للسلطان فى القاهرة، وكان فى بعض الأحوال تخرج بعض القوات من مصر لتأديب قبيلة ما أو لتأكيد السيادة الاسمية لحاكم القاهرة. ولم تكن هناك حدود واضحة المعالم كما نعرفها الآن، لذلك كانت القبائل تتنقل شرقًا وغربًا وراء الرعى والماء مع الاعتراف بالتبعية للقاهرة.
ومع الوجود العثمانى فى مصر بعد عام ١٥١٧، انتقلت بالتالى السيادة الاسمية للقاهرة على قبائل الصحراء الغربية وبرقة إلى والى القاهرة، والأمر المثير أن العثمانيين لم يغزوا ليبيا بعد دخولهم مصر فى عام ١٥١٧، كما حدث مع الفتح العربى، إذ تبع فتح العرب مصر امتداد هذا الفتح إلى ليبيا والمغرب العربى؛ إذ اكتفى العثمانيون فى البداية بدخولهم إلى مصر وسيادة اسمية على قبائل برقة، وجاء الدخول العسكرى العثمانى متأخرًا بعد ذلك وفى ظروفٍ استثنائية، وهى غزو الإسبان طرابلس، ثم تسليمهم طرابلس إلى فرسان القديس يوحنا، لهذا دخل العثمانيون إلى طرابلس عن طريق البحر لطردهم.
وفى معظم فترات الحكم العثمانى لم يكن للعثمانيين سيادة فعلية على مناطق الصحراء الغربية فى مصر، ولا امتدادها فى صحراء برقة، إنما تركت الأمور للقبائل البدوية، وليست هناك معلومات مؤكدة حول وجود فرق عسكرية عثمانية مستقرة فى هذه الأنحاء فى معظم الفترات، وربما كان هذا هو السبب الرئيسى وراء انتشار الحركة السنوسية والزوايا فى هذه الأنحاء مع بدايات السنوسية.
ولم تخضع برقة لحكام طرابلس العثمانيين بشكلٍ شبه فعلى، إلا فى فتراتٍ متقطعة من القرن السابع عشر، ولم يمتد النفوذ العثمانى ويستقر فى هذه الأنحاء إلا بعد تأسيس الأسرة القرمانلية فى عام ١٧١١.
ومع ذلك استمرت الحدود مفتوحة بين مصر وليبيا، مع استفادة القبائل والقوافل من اتساع الحدود ومعرفة القبائل بدروب الصحراء. وتذكر المصادر التاريخية أنه بعد احتلال الحملة الفرنسية مصر عام ١٧٩٨، فوجئ الفرنسيون بأن الحجاج المغاربة قد عبروا الحدود وهم مسلحون، ووصلوا عن طريق الصحراء إلى أبواب القاهرة، لعدم وجود أى قوات عسكرية عبر الصحراء، وشكَّل هؤلاء دائمًا خطرًا فى الجهاد ضد الحملة الفرنسية.
وعندما ضرب الأسطول الإنجليزى حصارًا بحريًا على الفرنسيين فى مصر زمن الحملة، فكر الفرنسيون فى إنزال مدد وعتاد بحرى فى برقة، ونقله عبر الصحراء إلى الجيش الفرنسى فى القاهرة، وهذا الأمر يوضح مدى الأهمية الاستراتيجية لبرقة لمَن يحكم مصر.
والخطر الكبير الذى تعرضت له مصر من الحدود الغربية كان الغزو الألمانى الإيطالى، غزو روميل، أثناء الحرب العالمية الثانية، ومعركة العلمين الشهيرة التى حسمت مصير الحرب فى الشرق الأوسط.
كل هذه الأحداث تؤكد أهمية وعمق الارتباط المشترك بين مصر وليبيا عبر التاريخ.