رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رجال الله فى الأرض «2»


إغاثة الملهوف صدقة من العبد، له أجرها عند ربه.. ففى إغاثة الناس وقضاء حوائجهم تفريج لكربهم، وفى مقابل ذلك تكفل الله، لمن فرج كربة الملهوف، بأن يُفرج عنه كربة من كربات يوم القيامة.. وهى خصيلة لا يقدر عليها إلا أصحاب المروءة، الذين لا ينقطع معروفهم بين الناس.
حين وصل إلى سن الخامسة والستين، اعتزل مجدى يعقوب الجراحة، واستمر استشاريًا ومُنظرًا لعمليات نقل الأعضاء، وأنشأ مؤسسة «سلسلة الأمل» الخيرية، تتولى إجراء جراحات لإنقاذ حياة مرضى القلب من الأطفال فى البلدان النامية.. فعلها فى أوغندا وجنوب إفريقيا ورواندا وجامايكا وإثيوبيا وموزمبيق، وغيرها.. وعندما فكر فى خدمة بلاده، جاء إلى أسوان، التى قضى عامًا من عمره فى إحدى مدارسها.. أعجبته المدينة الهادئة الوادعة الجميلة النقية، والقريبة من إفريقيا، وأنشأ مركزًا لعمليات القلب، المشروع الذى يعتبره حلم حياته، يقدم خدماته بالمجان للمواطنين البسطاء من كل أنحاء الجمهورية وإفريقيا، ولأهل الصعيد الذين يجدون مشقة فى السفر إلى القاهرة.. يتولى هو الإشراف على فريق الأطباء، ويشارك أحيانًا فى إجراء عمليات القلب المفتوح، قائلًا: «طالما أمشى على الأرض، سأبذل قصارى جهدى وأفضل ما عندى لصناعة فريق»، وبأخلاق العالِم يعترف بأن ما تحقق له من نجاحات، كان بفضل فريق العمل الذى يثق به، لأنهم يفكرون مثله، وربما أفضل منه.. ومثل هذا الاعتراف يعد واحدًا من أسرار تقدم الشعوب.. عدم احتكار العلم الذى قال عنه رسولنا الكريم ﷺ: «خيركم من تعلم العلم وعلمه».
يروى د. مجدى إسحق، المدير التنفيذى لمركز أسوان، أنه رفض طلب د. يعقوب منه العمل معه فى بداية المشروع، لأنه مشروع كبير، وكان يرى أن مجدى يعقوب هو سر قوته وهو نقطة ضعفه فى آن واحد، ولو حدث له مكروه، فإن المشروع سينهار، فكان شرطه الوحيد هو أن تكون هناك استمرارية للعمل، بخلق كوادر جديدة، مع وضع نظام يحقق وجود أكثر من شخص يحملون مهارات مجدى يعقوب.. وبالفعل أصبح هناك ١٣٠ طبيبًا منهم فى أسوان وليس واحدًا.. وهذا فى مصلحة الكيان الذى يثق فيه المتبرعون، ويودون استمرار المشروع فى تقديم خدماته بالمستوى المطلوب، الذى عُرف عنه.. مشروع يستمر بعد الأشخاص، حتى ولو كان مجدى يعقوب نفسه.
جاء إلى أسوان واحد من تلامذة د. يعقوب، وقد أصبح رئيسًا لجراحات القلب فى جامعة هارفارد.. قضى يومين، شاهد خلالهما ما يجرى داخل غُرف العمليات، فأصابه هوس ولم يُصدق أن هذا التقدم الجراحى يحدث فى مصر.. وعندما عاد إلى بلاده، طلب إرسال جراحيه الجدد للتدريب فى مركز أسوان، على الجراحات الجديدة والأشكال المتنوعة التى لم تمر فى خبراتهم، بعد أن ابتكر أطباء هذا المركز طرقًا جديدة وطوروا ما كان قديمًا فى جراحات القلب.. زد على ذلك ما لم يكن معروفًا فى ثقافة الطب المصرى، من أن الجراح مسئول مسئولية مباشرة عن مريضه، منذ إجرائه الجراحة وحتى تجاوزه مرحلة الخطر، لا يغادر المستشفى، ولا يذهب إلى بيته حتى يطمئن على سلامته.. وكان لمجدى يعقوب فضل تغيير الصورة السائدة فى مصر عن التمريض، إذ يرى أن هؤلاء لا يقلون أهمية عن الأطباء، وهم شركاء فى المسئولية، «نقوم على تدريبهم، ونمنحم الثقة، حتى يكونوا جزءًا مهمًا من المركز، ونقوم على سفرهم للخارج، تعلمًا ومكافأة لهم على جهودهم وانتمائهم، يعودون بعدها بطاقة إيجابية، وهذه هى روح الفريق التى نحرص على وجودها».
ولأنه أعلن عن بناء مستشفاه الجديد الذى سيستقبل، بعد ثلاثة أعوام، ٨٠ ألف مريض قلب سنويًا، وفى غُرفها سيتم إجراء ١٢ ألف عملية مجانية.. بعطاء مستمر للبشرية، وجهود دءوبة للوصول بالطبيب المصرى إلى مستوى الخبير الذى يفيد الآخرين بعلمه على مستوى العالم، سعيًا إلى أن يُشار إلى القاهرة كواحدة من مراكز القلب عالميًا، جنبًا إلى جنب مع ستانفورد وكليفلاند.. قامت مبادرة «صناع الأمل» بتكريم أسطورة الطب، مجدى يعقوب، فى دورتها الثالثة بدبى، بمنحه وشاح الشيخ محمد بن راشد، الذى أكد أن «صناعة الأمل هى الصناعة التى لا يخسر فيها أحد»، وقرر توجيه تبرعات المبادرة، البالغة ٣٧٦ مليون جنيه، إلى مستشفى يعقوب بالقاهرة، بعد أن قدم الدكتور مجدى فلسفة عمله، بقوله: «الفكرة إن إحنا بنعالج الناس بمساواة كاملة، بغض النظر عندهم فلوس أو معندهمش، شكلهم إيه، لونهم إيه، ديانتهم إيه؟.. وأنه لا يجب الاكتفاء فقط بصناعة طبيب قادر على إجراء جراحات ضخمة وكبيرة، بل بتخريج طبيب وعالِم، متواضع وإنسان».
يقول د. يعقوب إن له «سيدين.. العلم والمريض»، ومن أجل السيد الأول، فإن مستشفاه سيكون مركزًا علميًا متكاملًا للأبحاث والابتكارات الجديدة فى علاج وجراحات القلب، هو الثانى عالميًا بين أكبر مراكز البحث داخل المستشفيات، والأول فى الشرق الأوسط.. بالإضافة إلى المركز التدريبى والتعليمى، لتخريج كوادر مصرية وعربية وإفريقية، تضع مصر على خريطة هذا النوع من الجراحات فى العالم، ويشار إلى القاهرة بين مراكز القلب العالمية، وبأنها عاصمة للقلب فى العالم العربى.. ولأن المريض هو «السيد» الثانى عند مجدى يعقوب، فقد جعل مستشفاه الجديد فى القاهرة لخدمة أهالينا من العاصمة وشمال البلاد والوجه البحرى، وأضاف إلى البشر، القوى التى تُحرك المستشفيات، البُنى، بحرصه على تصميم مبنى جميل الشكل على مساحة ٢٧ فدانًا فى مدينة السادس من أكتوبر، يرى الأهرامات، ويحقق الراحة للعاملين والمرضى معًا، لأن ما تراه عين المريض يمنحه الأمل فى الحياة.. قام عليه المصمم العالمى السير نورمان فوستر، واحد من عشرين عبقريًا حصلوا على وسام ملكة بريطانيا، وصمم العديد من المنشآت العالمية.
ضربة البداية جاءت من دبى، لكن الطريق ما زال طويلًا نحو استكمال ٢٩٠ مليون دولار، تكلفة إنشاءات وتجهيزات المستشفى الجديد، لكن هذا المستشفى ملك للشعب المصرى، ود. مجدى يثق فى هذا الشعب، بعد أن لمس الناس خطواته الموفقة، وعاش تواضعه وإنسانيته، ويعلم أنه لن يخذل حلمه باستكمال ما بدأه فى أسوان، حتى يكون هناك صرح طبى عالمى، يعطى للشعب المصرى حقه، ويقدم له ما عليه من واجب تجاهه، لأن «الشعب المصرى من أعظم وأكرم شعوب العالم»، سيقف وراء حلم وطن، بأن يكون لمصر أكبر مركز للقلب فى الشرق الأوسط، وقبلة لدارسى وطالبى العلاج فى المنطقة، وهذه قيمة وطنية، وليست إنسانية وطبية فقط.. ودليل على ذلك، فقد كان من بين متبرعى دبى رجل الأعمال المصرى سميح ساويرس، الذى تبرع بأكثر من ٢٥ مليون جنيه، بعد أن تعامل مع يعقوب من قبل فى مشروعات هنا وبإفريقيا، وشاهد النتائج التى يمكن الاطمئنان إليها، وبخاصة مستشفى أسوان، «عنوان الجدية التى تُطمئن المتبرعين، بما يقدمه من خدمات جليلة للمرضى، بمستوى فوق العالمى.. ومش كل يوم الواحد بيلاقى موضوع الناس القائمين عليه موثوق فيهم»، أو كما قال أحدهم إن مجدى يعقوب لم يسهم بعلمه ومهنيته فقط، بل بإنسانيته التى دفعته للزهد فيما يملك، وجعله وقفًا لصحة الناس.
وأخيرًا.. لقد بشر الله تعالى الأخيار من عباده، بقوله الحق: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المزمل: ٢٠].
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.