رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اِحزَن.. الصورة طلعِت وحشة


قاموس السياسة الدولى لا تندرج ضمن مفرادته المقارنات.. إذ سرعان ما يصنفها تحت بند نظريات المؤامرة ويعلقها على «شماعة» اختلاف طبيعة الظروف والمتغيرات المحيطة بالمشهد العام- سواء عربيًا أو دوليًا- فى حال طرح أى مقارنة على المجتمع الدولى، حتى وإن كانت تحمل كل علامات الاستفهام والتعجب! هذه الحالة الجدلية قد يُعلِن العقل العربى عن استسلامه لها وقبوله بها، فى حال نجاح هيئة أممية كمنظمة الأمم المتحدة المفترض أن شرعية قراراتها تحظى باعتراف والتزام دول العالم، رغم كل خطوط الشيخوخة التى رسمت آثارها على أداء هذه المؤسسة الدولية.
لم تمضِ ساعات على ارتكاب الرئيس العراقى الراحل صدام حسين الخطأ الكارثى، الذى دق أول مسمار فى نعشه حين أمر القوات العراقية بدخول أراضى الكويت أغسطس عام ١٩٩١، حتى أسرع مجلس الأمن بعد ساعات قليلة بإصدار قرار يدعو إلى انسحاب فورى وغير مشروط من الكويت، ثم توالت القرارات بين عامى ١٩٩١ و٢٠٠٠ لتصل إلى ٥٣ قرارًا، أهمها فرض الحصار على العراق، ومصادرة أسلحته، وإخراجه من الكويت باستخدام القوة، ثم تتوالى على مدى أيام قرارات فى ذات السياق، ليقوم التحالف الدولى الذى تم تشكيله بقيادة أمريكا بشن حرب الخليج الثانية ١٥ يناير ١٩٩١. أيام شهدت كواليسها لحظات نادرة و«غريبة» عبر تاريخ الأمم المتحدة فى تطورات متلاحقة للأحداث على الساحة الدولية، حيث تطابق تقييم كل من روسيا وأمريكا تجاه الخطر الذى نشأ نتيجة هذا الاحتلال، ما مكّن اتفاق الطرفين فى مجلس الأمن على تبنى قرارات سريعة وحاسمة فى هذا الشأن. حرب الخليج الثانية اكتسبت ضرورتها وشرعيتها فى إطار القانون الدولى عند احتلال دولة لأخرى، على نقيض الظروف التى أحاطت الغزو الأمريكى للعراق عام ٢٠٠٣.
مقابل هذه اللقطة، ظهرت دول أخرى ليبدأ تفاقمها منذ العقدين الماضيين حتى الوقت الحالى، تحديدًا مع وصول رجب طيب أردوغان إلى الحكم فى تركيا، ويستشرى تدخل نظامه فى المنطقة العربية. الأمثلة لا حصر لها.. قواعد عسكرية فى العراق بلغ عددها ١٥ قاعدة أبرزها فى منطقة «بعشيقة» على أطراف مدينة الموصل، غارات متواصلة على شمال العراق، لتزداد وتيرة «التوحش» أمام التهاون الدولى مع غزو قوات أردوغان سوريا، احتلال مناطق من أراضيها وفرض «التتريك» علنًا على كل مؤسساتها ومعالمها، ليصبح احتلاله «المنطقة الآمنة» التى تحتضن كل التنظيمات الإرهابية وأبرزها داعش وجبهة هيئة تحرير الشام إحدى أذرع تنظيم القاعدة. التمادى فى هذه المغامرات الطائشة دفع تدخلات أردوغان العسكرية نحو مستنقع منطقة إدلب السورية وإشعال المعارك التى باتت تهدد بمواجهة روسية- تركية.. بل يمكن وصف مأزق إدلب بأنه مأزق أردوغان بعد تراكم الأخطاء التى ارتكبها نظامه، حين اعتمد تدخله العسكرى فى سوريا منذ البداية على وضع مصلحته الشخصية فوق تركيا. «هوس النرجسية» وتحكم أجندة جماعة الإخوان بكل تخلفها فى تصرفاته دفع أردوغان نحو المزيد من المغامرات الخائبة، مثل الاتجاه إلى دول أخرى فى المنطقة، محاولة ابتزاز أوروبًا عن طريق فتح الحدود أمام المهاجرين، وهو ما يعكس حالة التخبط التى يمر بها.
فى ليبيا ضرب أردوغان عرض الحائط بالقوانين الدولية، وكل ما نصت عليه قرارات المؤتمرات الدولية، عبر ما زعم أنه «اتفاق» مع حكومة تلفظ أنفاسها الأخيرة، أحال به تركيا إلى «شركة تصدير» للمرتزقة من عناصر التنظيمات الإرهابية إلى ليبيا بالإضافة إلى إمدادها بالأسلحة المتنوعة.. عمليات جميعها مكشوفة بالدلائل أمام المجتمع الدولى.. الأدهى هو تمادى أردوغان فى تحدى المجتمع الدولى بالإعلان مباشرة أن تواجد قواته فى سوريا وليبيا ليس من باب «الضيافة»، لكنه استعادة أراضٍ ما زالت خاضغة للإمبراطورية العثمانية التى قامت باحتلالها منذ عقود طويلة.
رغم عدم وجود فاصل زمنى كبير بين كلتا الصورتين، إذ لا يتجاوز العشر سنين، هناك ما يستدعى نقاط مقارنة فى المبادئ الرئيسية وإن اختلفت الظروف والتفاصيل.. كلاهما- صدام وأردوغان- اعتديا بالاحتلال على دول ذات سيادة واستقلال، كلاهما لوح بورقة أن هذه الدول هى حق يدخل ضمن أراضى بلاده، صدام بزعم أن الكويت جزء من العراق وأردوغان اعتبر سوريا وليبيا جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، رفض التراجع عن الممارسات العدائية، صدام رفض الانسحاب من الكويت عبر عدة مماطلات، أردوغان أعلن عن عدم نيته مغادرة قواته سوريا وليبيا بأى حال!، هنا تظهر أهمية السؤال حول أسباب ومتغيرات ردود الأفعال الدولية تجاه الحالتين، رغم أوجه التطابق وفق القوانين الدولية. كلمة السر فى هذه الازدواجية تكمن فى المصالح الدولية.. أمريكا التى كان هاجسها عام ١٩٩١ تدمير قوة الجيش العراقى نجحت فى استقطاب مجموعة الاتحاد الأوروبى بذريعة مجموعة أكاذيب حشدت لها أمريكا كل مؤسساتها السياسية والإعلامية وفرضتها على العالم كحقائق، لعل أبرز الأمثلة أسلحة الدمار الشامل والإرهاب وغيرها.. فى المقابل، كلا الطرفين- أمريكا والاتحاد الأوروبى- مارسا غض البصر وأسلحة التحذير والقلق تجاه كل خروقات النظام التركى عبر السنين الماضية، ثم تماديا فى التناقض وتعاونا خلال عدة مواقف مع هذه الخطوات العدائية فى تجاوز لكل شعارات محاربة الإرهاب، والتغاضى عن أنظمة تحتضن التنظيمات الجهادية مثل تركيا، بعد أن قاما بافتعال نفس الذريعة عام ١٩٩١ لتدمير نظام لم يكن على صلة بأى تنظيم إرهابى.
أخطر المغالطات التى تهدد جدية التعامل مع ملف دولى مثل مكافحة الإرهاب، يكمن فى استغلال هذه الورقة ضمن «لعبة المصالح الدولية».. خلط كفيل بتحويل الهدف الدولى عن مساره الأصلى ليصبح هذا الطرح الانتهازى بدوره سلاحًا فى يد هذه التنظيمات، إما عن طريق تنظيم مناطق تمركزها وصفوفها، أو إعادة تدوير فصائلها تحت مسميات جديدة.