رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ادخلوا من الباب


«إن الذى لا يدخل من الباب إلى حظيرة الخراف، بل يطلع من موضع آخر، فذاك سارق ولص». لذلك أقول لكل مصرى: من فضلك أدخل من الباب! ماذا أريد أن أقول؟
أقول للطالب- سواءً فى المدرسة أو الجامعة- إن لم تستذكر دروسك باجتهاد، وتواصل النهار بالليل فى تحصيل علومك لتحقق النجاح باجتهادك- وليس بالغش والخداع- فأنت حينئذ تدخل من الباب الرسمى إلى الجامعة أو إلى الحياة العملية، ولسوف يحالفك النجاح فى حياتك. أما ما سمعنا عنه مؤخرًا- كما ورد بالصفحة الأولى بجريدة «المصرى اليوم»- عن اللجان الخاصة بـ«أولاد الأكابر» فى امتحانات الثانوية العامة فهؤلاء- مهما حصلوا على مجاميع عالية- هم سراق ولصوص والعقوبة تقع على والديهم وعلى المسئولين.
أعرف طالبًا عندما كان فى امتحان الشهادة الإعدادية بالإسكندرية- أعرفه حق المعرفة- رفض بإصرار، وهو فى هذه السن المبكرة، أن يشترك مع بقية زملائه فى الغش فى الامتحان النهائى، بعد أن سمح مراقب لجنة الامتحان ليقوم الطلبة بالغش، لأنه مراقب كان بلا ضمير. لم يحصل هذا الطالب على الدرجات النهائية فى الامتحان ولكنه أراح ضميره. بعد ذلك التحق بالجامعة وسار طوال فترة دراسته بضمير حى. سنده الله فى امتحاناته وتخرج فى الكلية العملية التى درس بها، فأعد الله له عملًا متميزًا بإحدى الشركات الكبرى، ووفقه الله فى زواجه، وصار يتمتع بحياة هنيئة متمتعًا بحب زملائه ورؤسائه. هذا الطالب دخل بالحقيقة من الباب. فهو إنسان أمين تفوق على الكثيرين من الذين سلكوا طريق الخداع والكذب. فتيقظوا واصحوا لئلا تضلوا لأن الأيام شريرة.
أستاذ الجامعة الذى يتحلى بالأمانة الكاملة ويبذل أقصى جهد فى تقديم العلم النافع لطلابه وتلاميذه ويجتهد فى متابعة ما أتقنوه من العلم الذى يقوم بتدريسه، فهو حينئذ يدخل من الباب الرسمى إلى مصاف أساتذة الجامعة الحقيقيين. وللأسف كم من أستاذ جامعى اخترق صفوف أساتذة الجامعة الحقيقيين بالرياء والنفاق وعدم الجدية فى العمل، ولكن بالوصولية والمصالح الشخصية، حتى تصرفاته الشخصية تكشف عن عدم انتمائه لمصاف أساتذة الجامعة الحقيقيين.
المرشح لأى موقع قيادى، سواء فى الجامعة أو مجالس إدارة الشركات أو الأندية الرياضية أو النقابات المهنية المختلفة- الذى يكون صادقًا مع الله ومع نفسه– ولا يخدع منتخبيه بالمظاهر الكاذبة والوعود الغاشة والإنفاق ببذخ على العملية الانتخابية- فهو حينئذ يدخل من الباب الرسمى إلى المنصب الرئيسى ويباركه الله فى كل أعماله، ويغرس المحبة فى نفوس زملائه نحوه. وكم من أعضاء بالمجالس البرلمانية- سواء سابقًا أو حاليًا- شغلوا مناصب فى البرلمان بالغش والخداع والأموال.
رجل الدين- فى أى دين من الأديان- الذى يكون صادقًا مع نفسه ومع الله ويعظ الناس بما يطبقه فى حياته- وليس بادعاء التقوى والبر والخشوع المُزيف، بل بالتواضع الحقيقى والفقر الاختيارى والحب النابع من القلب- فهو حينئذ يدخل من الباب الرسمى ويسنده الله فى خدمته لشعبه، ويسبغ الله عليه من نعمه، ويكون بالحقيقة ملحًا للأرض ونورًا للعالم، وتكون تعاليمه ومواعظه متطابقة مع أفعاله فيقود شعبه إلى الصلاح والبر وحياة التقوى الحقيقية.
المرشح البطريركى الذى يتحلى بالقوانين الكنسية التى استقرت فى الكنيسة منذ القرن الرابع الميلادى- ولا يخدع الناس بقوانين زائفة ومخالفة ومغالطة للتسليم الآبائى- فهو حينئذ يدخل من الباب الرسمى إلى الكرسى البطريركى الذى هو الكرسى الإسكندرى وتسانده المعونة الإلهية ويكون راعيًا صالحًا وحقيقيًا ويملأ الله حياته بالسلام وشعبه بالاستقرار ووطنه بالهدوء والطمأنينة. لقد رأينا- بصدق- فى البابا كيرلس السادس البطريرك ١١٦ الذى التزم طوال حياته بالسلوك الرهبانى الحقيقى فعاش فقيرًا خادمًا حقيقيًا لشعبه بالفعل لا بالكلام والعظات الجوفاء. والكتاب المقدس يحذر بشدة رجل الدين الذى لا يدخل من حظيرة الخراف بل يطلع من موضع آخر، فيقول له: «الخراف لا تتبعه لأنها لا تعرف صوت الغريب». وكم من خراف رفضت الراعى الغاش فلم تعد تتبعه.
الشاب الذى يتقدم للزواج ولا يتجمل بفضائل ليست فيه- ولا يخدع أهل خطيبته بالكلام المعسول والمظاهر الخادعة والحب المصطنع- فهو حينئذ يدخل من الباب الرسمى ويباركه الله هو وأسرته ويتمتع بحياة ناجحة.
الموظف الذى يؤدى عمله بإخلاص وتفانٍ وإتقان- وليس بالغش والخداع والسرقة والكذب- فهو حينئذ يدخل من الباب الرسمى ويتدرج فى سلم الترقى بجدارة ويسنده الله فى عمله ويكون محبوبًا بين زملائه ومرءوسيه وأيضًا رؤسائه ويباركه الله فى كل ما تمتد إليه يداه.
ما مشكلتنا الحقيقية فى مصر؟ الكذب، والتجمل بما ليس فينا، والخداع، والمظاهر الفارغة، والجهل، وفقدان البصيرة، والانحراف عن طريق الحق، والخوف من المجاهرة بالحق، والتسلط على الضعفاء، وكثرة الكلام المعسول، ولىّ الحقائق. كل هذه وغيرها تحول حياتنا إلى خداع فى خداع فيختفى الباب ونبحث عن موضع آخر ندخل منه، حينئذ نكون سُراقًا ولصوصًا.
فانتبهوا إلى طريقكم لئلا تسقطوا فى الغواية وبريق المناصب فتهرب منكم البركة وتمتلئ حياتكم بالويلات. فاسهروا لئلًا يأتى السارق ليلًا ويسرق منكم حياة السلام والهدوء والطمأنينة وتتحول حياتكم إلى جحيم. وفى النهاية لا شىء يعادل أن يحيا الإنسان فى سلام حقيقى مع الله ومع نفسه ومع الناس.
من القصص التى يحفظها لنا التاريخ المصرى سيرة الرجل الفاضل إبراهيم الجوهرى «بداية النصف الأول من القرن ١٨- ١٧٩٥م» الذى شغل منصب رئاسة كُتّاب مصر «تعادل حاليًا درجة رئاسة الوزارة» وذلك فى عهد المماليك، فزادته الوظيفة تواضعًا وكرمًا وإحسانًا، حتى قال عنه الجبرتى: «كان يفعل ما يوجب انجذاب القلوب والمحبة إليه». وعندما حدث انقلاب فى هيئة الحكام، حضر إلى مصر حسن باشا قبطان من قِبل الباب العالى فقاتل إبراهيم بك ومراد بك واضطرا إلى الهروب إلى صعيد مصر ومعهما إبراهيم الجوهرى وبعض الأمراء وكُتابهم. فنهب قبطان باشا قصور البكوات والأمراء، وقام بسلب ممتلكات إبراهيم الجوهرى وعائلته، ثم استحضر قبطان باشا دميانة ابنة إبراهيم الجوهرى لتخبره عن أموال أبيها، فطلبت- بحكمة- منه أن يعطيها مُهلة. فقامت وجمعت بعض الفقراء وتوجهت بهم إلى قبطان باشا وقالت له: «إن أموال أبى فى بطون هؤلاء وعلى أجسامهم». تأثر قبطان باشا بكلام الابنة فلم يبطش بها. وإلى الآن ما زالت سيرة إبراهيم الجوهرى تتردد على كل لسان، بل إن معظم أوقاف الكنيسة القبطية الموجودة بمنطقة مصر القديمة هى من عطايا إبراهيم الجوهرى. لقد دخل بصدق من الباب وأعطى بسخاء.
ما أشد احتياجنا إلى اليقظة والبصيرة لنعرف المدخل الحقيقى للوظائف والأعمال التى نتقلدها لئلا نكون مرفوضين، أو بمعنى أصح نكون «سراقًا ولصوصًا».