رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يوميات التلصص.. حسن مدن


من النادر أن تقرأ حياتك فى حياة كاتب آخر، أو أن تسمع فى نصوصه الأنفاس الخافتة نفسها التى تفرقت فى الغربة بين عواصم العالم، فى بغداد وبيروت وموسكو، ثم تشعر وأنت تقرأه بذلك الحنين القديم الكبير إلى الوطن.
غادر دكتور حسن مدن البحرين وهو شاب فى نحو العشرين بسبب نشاطه السياسى التقدمى، ودرس فى كلية الحقوق بالقاهرة عام ١٩٧٤، وحينما حاول الرجوع إلى وطنه، عام ١٩٩٢، لم يسمحوا له بالخروج من المطار وأعادوه إلى المنفى، مع تحذير بألا يكرر المحاولة إلا عند صدور عفو عام، وعندما تغيرت الأحوال رجع إلى وطنه عام ٢٠٠١، وكان قد بلغ الخامسة والأربعين.
أطالع حياة حسن مدن وأجدنى أقرأ إلى حد ما صفحات من حياتى، وأجدنى أرى العواصم التى منحتنا ذكرياتها فى السنوات نفسها، وأكاد أرتجف من برد المقاعد المعدنية فى مطارات الغربة. يقول حسن مدن فى حوار معه منذ عدة أعوام: «ها أنا قد بلغت الستين من عمرى. لا أستطيع أن أشرح ما سأقوله بدقة، لكنى شعرت دائمًا بمسئولية أخلاقية فى أن أكون إلى جانب الناس فى توقهم نحو حياة أفضل، رغم ما يجره ذلك من متاعب». وأظن أن هذه هى الركيزة الأخلاقية والفكرية التى ارتفع فوقها كل إبداع «حسن مدن» من كتب ومقالات وندوات ومظاهرات. وقد ظل حسن مدن وفيًا لاختياره، يسترشد بعبارة الكاتب العراقى غائب طعمة فرمان: «يا قلمى.. لا تخن ضميرى»، فلم يكف عن تكسير جدران الزنازين الفكرية والاجتماعية، سواء بنشاطه المباشر فى المنبر التقدمى البحرينى، أو بقلمه الذى يخط الكلمات بروح عذبة لا تعكر صفوها مرارة التجارب ولا جهامة الحياة. عبر مسيرته الفكرية قدم «حسن مدن» العديد من الكتب الممتعة أبرزها: ترميم الذاكرة ٢٠٠٨، والكتابة بحبر أسود ٢٠١٥. فى كتابه الجديد، «يوميات التلصص» ٢٠١٩، يقدم لنا حسن مدن نصوصًا متنوعة مقسمة على أربعة أبواب: الأول «معايشات»، والثانى «أشياء»، والثالث «وجوه»، والرابع «أماكن»، وهى نصوص عصية على التصنيف، وعلى أن تدرج فى الأشكال الأدبية المقترحة. نصوص تذكرنا بكل الكتابات التى تغادر الخانات المعروفة، وتغرد وحدها، مثل كتاب إدواردو جاليانو «أفواه الزمن»، وكتاب سامح قاسم «ميل للسعادة»، وكتاب أروى صالح «المبتسرون»، نصوص ليست مذكرات، ولا تأريخًا، ولا سيرة ذاتية، ليست رواية أو قصة، لكنها ومض من كل سماء، صور أدبية وذكريات حميمة وتأملات فى الوطن والثقافة والتاريخ والسياسة والحياة، تثبت جميعها أن روح الكتابة قد تظل مشتعلة خارج الأشكال المتعارف عليها. يكتب حسن مدن كل ما يكتبه بسهولة وعذوبة كأنه لا يكتب، كأنه لم يكتب، كأنه فقط تنفس فى الفجر وحده، فهو ينزلق من خاطر صغير إلى زوبعة فكرية، فتجد مدهوشًا أن النسمة الخفيفة قد أمست عاصفة. طالما غبطتُ حسن مدن على تلك القدرة الجميلة على أسر القارئ بتلك السهولة والسلاسة، وكثيرًا ما خطر لى أنه أديب، بكل مقومات ونفسية الأديب الكبير، فقط كنت أندهش: لماذا إذن لا يكتب الأدب؟ فى كتابه هذا «يوميات التلصص» وجدت أكثر من نص قصصى ممتع، أما النص المسمى «طرقة خفيفة على الباب»، فإنه قصة قصيرة بكل معنى القصة، بل وقصة قصيرة عذبة وجميلة. يثبت د. حسن مدن فى كتابه هذا أنه حكّاء، أقرب إلى السحرة الذين كانوا يجلسون فى الغابات ويعزفون الناى، فيجمعون الناس حولهم، بقدرة الفن، وسحره. فى كتابه يتذكر حسن مدن والدى، الأديب الراحل عبدالرحمن الخميسى، فيكتب تحت عنوان «البحرين تختفى فى شبرا» إن عبدالرحمن الخميسى خلال إقامته فى بغداد تزوج من شابة بحرينية فى السبعينيات، وسألها ذات يوم عن عدد سكان البحرين، فقالت له إن عددهم لا يتجاوز مائتى وخمسين ألف نسمة، فقهقه الخميسى ضاحكًا: «الله ده الواحد يقدر يعزمهم كلهم فى ليلة واحدة»!، لقد خلقت سنوات الغربة الطويلة لحسن مدن رئة مصرية ورئة روسية ورئة عراقية إلى جانب ما أعطته البحرين، فأصبح يرى العالم بأكثر من قلب، وأكثر من محبة، ويؤكد كتابه «يوميات التلصص» أن المهم فى النهاية هو الكتابة نفسها وطرق التعبير، وكم من الروايات سقطت من الذاكرة الأدبية، بينما لا يزال النص الذى قدمه جوناثان سويفت بعنوان «اقتراح» حيًا وملهمًا يثير التفكير إلى الآن، وهو نص خارج الأشكال المقترحة.