رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المذكرات المجهولة «1»

وثيقة عمرها 45 عامًا.. علي أمين يتحدث

علي أمين
علي أمين

من ذا الذى ينسى أن عيد الأم، الذى صار عيدًا قوميًا عربيًا هو فكرة على أمين، الذى ولد قبل أخيه مصطفى بـ«٣» دقائق، ورحل قبله بحوالى واحد وعشرين سنة، وكان مشغولًا فى أيامه الأخيرة، وهو على سرير المرض، بمشروعات صحفية يحلم بتحقيقها كما حقق فكرته «أخبار اليوم»- التى أحدثت ثورة فى عالم الصحافة- رغم دراسته الهندسة الميكانيكية، التى فرضتها عليه أسرته كراهية فى الصحافة، التى عشقها منذ طفولته وصباه، كما فرض عليه إسماعيل صدقى باشا استكمال دراسته فى إنجلترا بعد أن حرم عليه دخول الجامعات المصرية لقيادته مظاهرات الطلبة.

ورغم الحلم بالتغيير، الذى تحقق بقيام ثورة يوليو، إلا أن الوشايات بدأت تحاك ضد الأخوين من منافسيهما الصحفيين، مما أدى إلى سجنهما معًا أول مرة، ثم سجن مصطفى وحده بعد ذلك، ولكن تبقى براءة ذمتهما، فقد كانا من القلة التى لم تتقاض «المصاريف السرية»، التى كشفت عنها الثورة للتعريض بالصحفيين غير الموالين لها، وعندما اقترح على أمين مشروعًا لمحو الأمية تتبناه «أخبار اليوم» أعجب به الرئيس جمال عبدالناصر، ولكن وزير التعليم اعتبره تدخلًا فى اختصاصاته.

ويكشف على أمين الكثير من أسرار الحياة الصحفية والسياسية فى هذه الصفحات المجهولة من مذكراته، التى نشرها محمد الوزان قبل ٤٥ سنة بمجلة «الجديد» الثقافية التى كان يرأس تحريرها الكاتب المسرحى د. رشاد رشدى، نعيد نشرها احتفالًا بذكرى عملاق الصحافة على أمين (١٤ فبراير ١٩١٤- ٢٨ مارس ١٩٧٦).



الوصول إلى الدنيا

فى بيت الأمة، اليوم ٢١ فبراير ١٩١٤، الساعة تقترب من الواحدة ظهرًا، والسيدة رتيبة زغلول، حرم محمد أمين أبويوسف، تعانى آلام الوضع خرج إلى النور «على» المولود الأول، وعمت الفرحة البيت الكبير.. فقد كان المولود ذكرًا، ولم تستمر هذه الفرحة سوى ثلاث دقائق، فقد استمرت مع الأم آلام تشبه آلام الوضع.. وخرج إلى النور «مصطفى» المولود الثانى، وكانت كارثة، وبدلًا من أن تهتم الأم بالولدين أخذت تذرف الدموع، فلم يكن يشغل بالها فى هذه اللحظات سوى شىء واحد، كيف يمكن لها أن تقوم بتربية ولدين فى وقت واحد؟، فى نفس اليوم كان الأب يترافع فى إحدى القضايا فى مدينة دمياط، وأرسل له سعد زغلول برقية نصها: «أنجبت السيدة حرمكم مولودًا ذكرًا».

كان سعد زغلول يخشى أن يحدث للأب ما حدث لزوجته، فجعل الخبر فى البرقية يحوى مولودًا واحدًا وليس اثنين! وأراد سعد أن يخفف الحمل من على كاهل الأم فقرر أن يتبنى مصطفى، وفرحت الأم وكفكفت دموعها، وفوجئ الأب عند عودته من دمياط بالخبرين: خبر التوأمين، وخبر تبنى مصطفى، ورفض الأب تمامًا تبنى سعد زغلول لولده وقال: «إن ذلك جريمة فى حق التوأمين ولا يجوز الفصل بينهما»، وعادت الأم تذرف دموعها من جديد.

كان الأب، محمد أمين أبويوسف، الولد الوحيد بين خمس بنات، وكان والده الشيخ أمين أبويوسف من ألمع محامى عصره، فقد كان أحد زعماء الثورة العرابية ونفاه الإنجليز إلى سوريا بعد فشل الثورة، وقد تزوج محمد من السيدة رتيبة زغلول بعد أن أحضرها سعد زغلول من قرية «إبيانة» هى وشقيقها سعيد بعد وفاة أمهما، وهى أخته الوحيدة وعاشوا فى بيت الأمة، لذلك كان الولدان الصغيران يطلقان على سعد زغلول «جدو سعد».

القاهرة ١٩١٩.. الثورة تجتاح البلاد، الشعب يغلى كبركان ثائر، القصر الملكى والسفارة البريطانية فى ذعر شديد.. انطلق الشعب المصرى كله برجاله ونسائه وأطفاله أيضا يهتفون: «عاشت مصر حرة.. عاش سعد زغلول.. الاستقلال التام أو الموت الزؤام».
كان الشباب يرفع الأعلام الحمراء ويهتف باسم مصر عاليًا، وصفية زغلول لا تهدأ، تضمد الجرحى وتلف جثث الشهداء فى الأعلام الحمراء.
يقول على أمين: كنت صبيًا صغيرًا لم أتجاوز عامى الخامس بعد.. كنت أقف فى سلاملك بيت الأمة مع أخى مصطفى نشاهد كل هذه الأحداث، ولكننى لم أكتف بذلك بل خرجت واشتركت مع المتظاهرات والمتظاهرين، وقد تركت هذه الأحداث السياسية المبكرة آثارًا وأبعادًا فى ملامح شخصيتى أثرت فيما بعد على كل حياتى.

كان أثر ثورة ١٩١٩ ضخمًا على ثورات البلاد العربية، وكانت خطب سعد زغلول على كل لسان، وصورته فى كل بيت.. كان تلاميذ المدارس يحفظون كلماته كالمحفوظات ولكن سعد زغلول تأخر فى الدعوة إلى الوحدة العربية، ولقد قيل فى تفسير ذلك إن سعدًا كان متعصبًا لمصريته، وإنه كان يهتم باستقلال مصر وحدها.. ولكن الواقع أن «سعد» أراد أن تكون ثورته عربية، ولكنه صدم صدمة جعلته يؤخر هذه الدعوة.. فى نفس السنة اختار سعد زغلول أعضاء الوفد، الذين يقودون الثورة، واختار من بينهم ميشيل لطف الله، وهو سورى يقيم فى مصر، وكان سعد يرى أن وجود سورى فى الوفد يحول الثورة من مصرية إلى عربية، وأعد سعد منشور الوفد وتأليفه، وفيه اسم ميشيل لطف الله، وإذا بميشيل يذهب إلى سعد ويطلب منه حذف اسمه من بين أعضاء الوفد! ودهش سعد وسأله عن السبب، فقال ميشيل: «أنا أريد أن أدافع عن قضية سوريا وحدها».. وحاول سعد أن يثنيه عن عزمه، ولكن ميشيل أصر، وقال: «إن مزج قضية استقلال مصر باستقلال سوريا يضر سوريا». 

كان هذا الحادث نقطة تحول خطيرة فى اتجاه ثورة ١٩١٩، ولولا هذا الحادث لاتخذت الثورة طابعًا مختلفًا عن طابعها المصرى، ولكن كان واضحًا فيما بعد أن أغلب الثورات العربية قد تأثرت بثورة سعد، حتى إن كل زعيم من زعماء هذه الثورات كان يطلق عليه سعد زغلول، فيقال سعد زغلول سوريا.. سعد زغلول العراق.. سعد زغلول طرابلس، لذلك عندما قامت ثورة سوريا لم ينتظر سعد زغلول وقام يؤيدها على الفور.

لعبة الصحافة

كان بيت الأمة هو المحور، الذى تدور فيه كل المناقشات والجلسات السياسية الطويلة، وكان سعد يجلس مع ضيوفه من كبار رجال السياسة والصحافة يتحدثون، بينما كنت وأخى مصطفى نتابع ما يدور من أحاديث ومناقشات، وراق لنا العمل الصحفى فى هذه السن المبكرة لما كنا نشاهده من اهتمام بالغ بالصحفيين، وكان يدور بينى وبين مصطفى هذا الحوار:
مصطفى: ياللا يا على نلعب عسكر وحرامية.
على: لا أحب هذه اللعبة.
مصطفى: ليه.
على: لأنك تقوم دائما بدور العسكرى.
مصطفى: أمال نلعب إيه؟
على: لعبة الصحافة.
مصطفى: إزاى يا على؟
على: إنت شايف كل الجرايد بتكتب عن نفى جدو سعد وأصحابه.
مصطفى: صحيح.
على: ليه ما نعملش مجلة أو جورنال نكتب فيه الأخبار دى؟
مصطفى: يعنى ننافس «الأهرام» و«المقطم».
على: طبعًا.. هما يعنى حيعرفوا الأخبار أحسن مننا؟!

ارفعى الحجاب 


فى سنة ١٩٢١ عاد سعد زغلول من منفاه واستقبلته مصر استقبال الغزاة الفاتحين، وكانت معه صفية زغلول، وقبل أن تصل الباخرة إلى الإسكندرية سألت صفية زوجها: «ألم يحن الوقت بعد لأنزع البرقع الأبيض؟!».. والتفت سعد إلى شابين من أنصاره هما واصفى غالى وعلى الشمسى، وسألهما رأيهما، فعارضا أن تبدأ صفية زغلول بنزع حجابها، وقال سعد زغلول: «هذه ثورة.. ارفعى الحجاب».. ورفعت صفية زغلول الحجاب وظهرت أمام الجماهير لأول مرة بوجه مكشوف، وإذا ببنات مصر يرفعن حجابهن أيضًا، وبذلك خرجت المرأة المصرية من «الحريم» والحجاب.


أين المسدس؟

كان سعد زغلول ثوريًا فى كل شىء، وكان مثلى الأعلى أنا ومصطفى، وكان رغم مشاغله الكثيرة يشجعنا على الكتابة وتسجيل كل ما يدور فى خواطرنا، وكثيرًا ما كنت أقوم بتلخيص الخطب، التى كنت أسمعها من الوفود فى بيت الأمة، وكان سعد زغلول لديه صبر غريب فى أن يجلس ليطالع ما سجله الصبى الصغير، فقد كنت أنصب الفاعل وأرفع المفعول، وأحرم أخوات كان من كافة حقوقها السياسية فى الرفع والنصب، وكان سعد يطلب منى أن أعيد ما كتبته بعد التصحيح.

كنت أنا وأخى مصطفى نطالع كل الصحف والمجلات التى كانت تصدر فى ذلك الوقت، لسبب بسيط هو أن «سعد» كان حريصًا على قراءتها، فقد كان سريع القراءة فى الصحف- بطيئا جدا حينما يقرأ ما كتبه هو بخط يده، فقد كان خطه رديئًا جدًا، يعجز- هو نفسه- فى كثير من الأحيان عن قراءة الحروف التى كتبها.. ووسط هذه المظاهرة الصحفية اليومية قررت أن أصدر مجلة، وخرجت مجلة «الأسد» فى ٨ صفحات فى حجم كراسات المدارس ومكتوبة كلها بالقلم الرصاص.. كان مصطفى هو القارئ الوحيد لها، وكانت بها أخبار أولاد المنزل والأسرة وبعض الأخبار السياسية التى سطوت عليها من جريدة «الأهرام».. وفجأة وبلا سابق إنذار أصدر مصطفى مجلة منافسة لـ«الأسد»، وهى «الحقوق»، كنت أنا القارئ الوحيد أيضًا لها.. وبعد فترة قررنا جمع جهودنا وإصدار مجلة واحدة أطلقنا عليها «بيت الأمة»، ونجحت المجلة فى محيط الأسرة.. ولعل أبرز ما كتبت فى هذه الفترة- فى تلك المجلة- تحقيقًا صحفيًا عن محاولة الاعتداء على سعد زغلول تحت عنوان كبير يقول «أين المسدس؟»، أقول فيه: «حدث صباح اليوم الذى وقع فيه الاعتداء على سعد زغلول أن قالت له أم المصريين: (أنا مش عارفة ليه عينى بترف)، فابتسم سعد ونصحها أن تضع قطرة، ولكن عينها استمرت ترف إلى أن عاد لها سعد والدم ينزف منه»!.

فى إجازة الصيف وبعد النجاح الذى حققته «بيت الأمة» قررنا أن تكون المجلة للحى بأكمله، فأطلقنا عليها اسم «حى الإنشاء»، وكان يطالعها أولاد وبنات الحى وحققت المجلة نجاحًا كبيرًا، فقد كانت تصدر أسبوعية ومطبوعة بالبالوظة! وانتهت الإجازة، ولكن هل تتوقف «حى الإنشاء»؟، لقد تطورت لتصبح «سنة ثالثة»، وهى خاصة بالتلاميذ فى «المنيرة الابتدائية» والأولاد سكان الحى.. واستمرت «سنة ثالثة» فى الصدور إلى أن لمع بريق جديد فى عالم الصحافة.. كان محمد التابعى هو نجم الصحافة المصرية الذى يحقد عليه الكبار لجرأته، ويحسده الصغار لبريقه، ولم نكن نحسده بل كنت وأخى مصطفى قد وقعنا تحت تأثير أسلوبه الساحر ومقالاته الجريئة.. كان التابعى هو الحلم الذى ظل يراودنا ويطاردنا فى كل مكان وزمان، لقد أصدر مجلة جديدة اسمها «روزاليوسف»، وحقق نجاحًا باهرًا.. لم يكن المدهش هنا هو صدور مجلة جديدة بقدر ما كان يثيرنا أن يكون رأسمال هذه المجلة خمسة جنيهات فقط!.. لقد قررنا منافسة «روز اليوسف» بمجلة جديدة أطلقنا عليها اسم «الطالب» برأسمال قدره عشرة جنيهات يمكن الحصول عليها من جدو سعد زغلول، ليدور معه الحوار التالى.


حوار مع سعد

سعد: ولدين فى ثانوى عايزين يشتغلوا فى الصحافة!.
على: وما له يا جدى.. ده أنا ومصطفى عملنا مجلات كتير قبل كده.
سعد: أنا قريت الأعداد دى، وكلها مكتوبة بطريقة الإنشا.
مصطفى: أبدًا يا جدو.. دى فيها تحقيقات كويسة، زى تحقيق أين المسدس؟.
سعد: مين الولد الشقى اللى كتب حكاية صفية لما قالت عينى بترف؟.
على: أنا.. أنا يا جدو. 
سعد: أنا ماعنديش مانع تشتغلوا فى الصحافة، بس لما تكبروا وتخلصوا دراستكم، لأن الصحافة مدرسة كبيرة ولا يجوز أن يشتغل بها جهلاء.
على: لكن إحنا مش جهلاء.
سعد: والله عال قوى.. ولدين لسه تلامذة عايزين يعملوا جورنال.. يعنى جامعة تعلم الشعب.
على: لو إدتنا العشرة جنيه فسترى أننا سنخرج مجلة ناجحة تنافس «الكشكول» و«المصور» و«روزاليوسف» كمان.
سعد: لا.. لا ده مش ممكن أبدًا.. انجر إنت وهو ياللا على المذاكرة.
وخرجنا من عند سعد والدموع تلمع فى العيون، ولكن هل كانت الجنيهات العشرة هى المفتاح الوحيد لإصدار مجلة «الطالب»، أم هناك طرق أخرى من الممكن أن تكتشف؟.

سوق «الكانتو» هى الحل

بدأنا البحث عن رأسمال لإصدار المجلة الجديدة.. فى سوق «الكانتو» كان الحل المثالى لكل المشاكل المادية.. الدراجات والساعات الذهبية تم بيعها بلا أدنى تفكير، وفى مطبعة صغيرة فى شارع الدواوين بالسيدة زينب دفعنا المبلغ الصغير، وصدر العدد الأول وتخاطفه الأصدقاء، وصدر العدد الثانى واشتراه الجيران ولكن ثمن البيع لا يغطى تكاليف الطباعة.. كنا نذهب إلى المدرسة مشيًا على الأقدام لتوفير ثمن تذكرة الترام من أجل المطبعة.. كنا نوفر ثمن وجبة الغداء من أجل شراء الورق، واستمرت المجلة فى الصدور حتى العدد الرابع بلون واحد، وكان لا بد من تجديد شامل فى المجلة.. كان التجديد هنا هو الألوان- صدر العدد الخامس فى غلاف بأربعة ألوان، ورسم الغلاف الفنان «سانتس»، وكان من أشهر رسامى الكاريكاتير فى ذلك الوقت، وتناوب معه الرسام «رخا» فى رسم بقية الأعداد حتى العدد العاشر.

مغامرة فى شلقان 

ازدادت الأزمة المالية، وكان لا بد من شريك ثالث- كان هذا الشريك صديقًا لنا وطالبًا فى الجامعة الأمريكية اسمه أمين حمدى- وتوقف إصدار العدد العاشر على مبلغ «جنيه» وهرشت رأسى وفجأة صرخ أمين حمدى: ياللا بينا على شلقان!، وشلقان هذه قرية تملكها أسرة الشلقانى المعروفة، وبها عزبة كبيرة يملكها عم أمين حمدى، وفى العزبة استطعنا نحن الثلاثة- أنا ومصطفى وأمين حمدى- أن نسرق خروفا ونقتاده من شلقان حتى «المدبح» سيرًا على الأقدام، وهى مسافة تزيد على ثلاثين كيلومترا!.