رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«نداهة» الشهرة



كم الجدل المثار خلال الفترة الماضية حول القوى الناعمة لمصر، المتمثلة فى ثقافاتها وفنونها، بالتأكيد يعكس حالة إيجابية ومراجعة صادقة لما استجد على أهم مصادر الإلهام للمنطقة العربية. نال الشق الفنى النصيب الأكبر من النقاش حول القضية، رغم ارتباطها المباشر بحالة بالغة التعقيد تمثل الشق الآخر الموازى لها.
«الشهرة حمل ثقيل».. كلمات الفيلسوف الفرنسى فولتير تلخص بدقة مواطن شهوات ونيران هذا العالم بكل تعقيداته النفسية والاجتماعية، إذ لا يمكن قراءة الكثير من مواقف أثارت جدلًا بين النقاد أو جمهور هؤلاء المشاهير.. موهبة منحها الله نعمة الصوت الرائع تتعمد فى كل ظهور علنى إطلاق تعليقات مثيرة للجدل، بهدف تصدرها المواقع الإخبارية أو وسائل التواصل الاجتماعى، غانية دفعها مرض الشهرة إلى اقتحام كل المناسبات العامة بظهور غريب لتُشبِع أمراضها النفسية أمام كاميرات الصحف والمواقع.. عودة إلى سنين قليلة تذكرنا بمقدم برامج ساخر امتلك مقومات الجماهيرية حين كان جزءًا من نسيج المصريين ونطقت سخريته بما فى قلوبهم، تهاوت كل شعبية البرنامج ومقدمه حين تحولت مفرداته إلى كل ما يشكل عناصر الاستفزاز والغضب بين الشارع المصرى، لينتهى به الأمر إلى مجرد صدى للنغمة النشاز التى تتردد فى بعض وسائل إعلام أمريكا والغرب.. «ظواهر» فنية تسحبها «نداهة» الشهرة إلى بداية النهاية، تحت وهم قدرتها الإقدام على كل وأى تصرف دون حساب أو مراجعة لترمومتر شعبيتها، نماذج ينطبق عليها بجدارة بيت من قصيدة للشاعر البريطانى جوردون بايرون «تحب الحماقة الشهادة فى سبيل الشهرة».
كانت أجمل أساطير هوليوود ريتا هيوارث حين تلتقط عيناها بالصدفة أحد مشاهد أفلامها القديمة، ثم تنظر فى المرآة عمق آثار الزمن على الوجه البديع، تنتابها «هستيريا» عصبية تدفعها إلى تحطيم المرآة بأى شىء أمامها. إلى هذه الدرجة تدفع الشهرة صاحبها إلى ارتكاب أى فعل لمجرد البقاء أو العودة إلى دائرة الأضواء، باستثناء عدد محدود من المشاهير نجحوا فى التعامل مع ألغام الشهرة وامتلكوا القدرة على التصالح مع النفس. ارتباط الشهرة بكل الظواهر- تحديدًا الفنية- التى أثارت الجدل حولها يؤكد حالة عدم استيعاب حجم الشهرة الهائلة حين تهبط فجأة نتيجة عمل أو مجموعة أعمال حققت رواجًا شعبيًا، ثم بعد تحقيق الجماهيرية يفشل أصحابها فى تحقيق التوازن المطلوب، لتبدأ مرحلة التخبط حين يفقدهم بريق الأضواء الرؤية الصائبة، وتتعطل «البوصلة» عن تحديد اتجاه طريق البقاء على القمة. المثير للدهشة أن التذمر المشترك بين هذه الحالات حول افتقاد الخصوصية، هو حق للأسف أريد به باطل.. نماذج عديدة لمشاهير بادروا بأنفسهم إلى إلغاء هذا الفاصل عبر ترويج نشر ما يجب ولا يجب أن يعلن عنهم، دون الوضع فى الاعتبار أن ذلك يفتح مجالًا لتدخل الناس فى حياتهم. حتى مَن حرصوا على إبقاء هذه المساحة لا تستهويهم حقيقة وجوب دفع «الضريبة».. فالشهرة كأى ميزة تمنح بيد وتطلب الثمن باليد الأخرى.. حقيقة تفرض ذكاء استثنائيًا وتوازنًا نفسيًا للتعامل معها.
فى إطار الجدل والحوار غالبًا ما تظهر مقارنات بين ردود أفعال الشهرة على أجيال سابقة مقارنة بالحالية دون وضع عامل الوقت فى الاعتبار، معظم نجوم الأجيال الماضية ظهروا من بيئة اجتماعية بسيطة ليخطوا تدريجيًا فى رحلة شاقة عبر سنين أو حتى عقود جمعت النجاحات والإحباطات فى طريقها إلى القمة.. جيل كان يفتخر بملازمة المثقفين وكبار الكتاب، للاستفادة بكل ما تمنحه لهم هذه الصداقات. التدرج فى صعود الجيل السابق بالتأكيد منحهم فرصة استيعاب نفسى لمتغيرات الشهرة. افتقاد هذا العامل بين الظواهر الفنية الحالية بعدما أصبحت مدة الوصول إلى «الترند» والمكاسب المالية الضخمة مسألة أيام، بالإضافة إلى التفاف شعبى كبير وفورى قد يصل إلى أفعال تقترب أحيانًا من الجنون. مظاهر من شأنها الدفع نحو التخبط وسوء إدارة الموهبة تحديدًا «نجوم» هذه الظواهر على اكتساب أى رصيد ثقافى أو فنى.
انفعال نقيب المهن الموسيقية، هانى شاكر، فى صورة قرارات أعلن عنها بالتأكيد لا يعكس قناعة حقيقية لفنان كبير بجدوى المنع، ولا رغبة عابرة فى فرض نفسه حارسًا على الذوق العام أو محاولة للحجر على حرية التعبير بقدر ما عبّر عن حالة غضب تجاه استهتار بعض «مرضى» شهرة سريعة صورت لهم امتلاك حق التعالى على القوانين، أو إرضاء النرجسية التى تملّكتهم ولو على حساب الآخرين.. دفعهم هوس الشهرة، سباق الثراء، مشاهدات «اليوتيوب»، إلى حد تجاوز الفوارق بين الحرية والإسفاف والتحريض، ليضربوا بعرض الحائط الوعود التى التزموا بها أمام نقيب المهن الموسيقية بتنقيح كلمات «مهرجاناتهم». المؤسف وجود أسماء بين من تعمدوا إثارة الجدل حول أعمالهم أو تعليقاتهم تمتلك موهبة جيدة.. لكنها غامرت باستنزاف لمسة الموهبة السحرية نتيجة الانسياق خلف نشوة الشهرة وضغوطها. فى المقابل، الرهان على ورقة الجمهور لم يعتبر يومًا من الثوابت المسلم بها، فالأمثلة من تاريخ الفن لا تُعد عن ظواهر لم يتجاوز التفاف الجمهور حولها سوى أشهر أو أعوام قليلة، لتنقلب لذة الشهرة إلى نقمة حين تحول المزاج العام ضدهم مع أول استشراف علامات التعالى والتخبط.
أبعاد حالة الجدل الدائرة لا تتوقف عند حرية التعبير أو جدوى المنع فقط، فقد تنوع المعروض من الفنون بين الراقى والردىء عبر العصور، لكنها تمتد إلى أزمة أسماء عديدة من عالم الأضواء عجزت عن التعامل مع توابع شهرة عصفت فجأة بهم حتى أفقدت أصحاب الموهبة قيمة الإحساس بالحفاظ على رصيدهم من هذه المنحة الإلهية، وأطاحت بصواب فاقدى الموهبة إلى درجة ارتكاب كل شىء للوصول إلى الثراء السريع عبر التمسك بأذيال الشهرة.