رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نظرة هادئة لقضية ملتهبة


لم يكن الموقف الذى اتخذته إثيوبيا، بالامتناع عن المشاركة فى الاجتماع الثلاثى الأخير بواشنطن، الذى عُقد منذ أيام، وبالتالى التنصُّل من التوقيع، بالأحرف الأولى، على اتفاقية ملء وتشغيل «سد النهضة»، - مفاجئًا للمتابعين المُدققين لهذه القضية والمُراقبين لسلوك إثيوبيا المنهجى فى التعامل معها وجوهره المناورة والمداورة والمراوغة وغياب النيّة فى التوصل إلى اتفاق عادل يحافظ على مصالح الدول الثلاث، والتهرب من الالتزام الفعلى بالمبادئ الأساسية المُستقرّة فى القضايا الشبيهة، وكسب الوقت، ووضع مصر أمام أمر واقع لا يمكن قبوله، بفرض إرادتها المنفردة فى المدى الزمنى لملء خزان «سد النهضة»، على حساب مصر وحصتها من المياه، والتى تترتب على الانصياع لشروطها نتائج على درجة عالية من الخطورة، تمس وجود وحياة الشعب المصرى كله.
وفى تصورى أن الدولة المصرية لا بد أن تكون منشغلة الآن بدراسة كل الإجراءات اللازمة على كل المستويات، لحماية أحد أهم عناصر المصلحة الوطنية العليا، وهو المياه، فهذا أمر مفروغ منه، ويهمنى أن أشير، فى هذا السياق إلى نقاط ثلاث، أراها ضرورية للغاية، أولًا: مطالبة راعى الاتفاقية الأخيرة، أى ضامن تنفيذها، الولايات المتحدة الأمريكية، باستخدام نفوذها الكبير، الذى لا يشك إنسان فى امتداد تأثيره إلى أغلب دول العالم، من أجل الضغط على إثيوبيا وإلزامها بالالتزام بتنفيذ بنود الاتفاقية، التى تم توقيعها بمعرفة وقبول ممثلى الدول الثلاث: إثيوبيا ومصر والسودان، بعد أن صيغت تحت الرعاية الأمريكية الكاملة، وآية ذلك التقاء الرئيس ترامب وزراء خارجية الدول الثلاث، والمشاركة النشطة للطرف الأمريكى فى استضافة الوفود والإشراف على صياغة الوثيقة، وهو ما يعنى بوضوح التزامًا أمريكيًا مُعلنًا بنجاح هذه المفاوضات والوصول بها إلى بر الأمان.
ثانيًا: وبالنظر إلى أن النزاع، أو فلنقل الصراع حول هذه القضية، بين دولتين إفريقيتين كبيرتين، هما مصر وإثيوبيا، مسألة تخص السلم والاستقرار العالميين، وقد تؤدى إلى عواقب وخيمة لا يقتصر أثرها على القارة الإفريقية وحسب، وإنما ستؤثر بالسلب على واقع عالمى يعج بالمشكلات والتحديات- فمن المهم، وفورًا، التوجّه نحو الأمم المتحدة لعرض القضية على جمعيتها العامة، والإسراع بالتواصل مع كل الدول والأطراف الصديقة فى العالم، من أجل حشدها لتأييد الموقف المصرى من هذه القضية المحورية. ومن نافلة القول أيضًا أن يشمل هذا الجهد التعبوى دول الوحدة الإفريقية ومنظمتها، والدول العربية وجامعتها، والدول والمنظمات الدولية فى أمريكا اللاتينية والعالم.. إلخ. هذا مع العلم أن الارتكان إلى أمل، أو وهم الانحياز الأمريكى فى هذه القضية، وفى غيرها، إلى قيمة أخلاقية رفيعة، مثل «عدالة» الموقف المصرى، أمر لا يمكن ضمانه لمدة ساعة واحدة، خاصة مع رئيس «مزاجى»، أو «هوائى» كـ«ترامب»، لا يهمه سوى مصالحه ومصالح نظامه، ويدعم هذه التخوفات سوابق التجارب مع أمريكا فى موقفها من دعم الاتفاقيات التى رعتها من قبل، كاتفاقية «أوسلو»، والتى تحولت إلى كابوس واقعى لأبناء الشعب الفلسطينى، تحت مرأى ومسمع «الوسيط الأمريكى النزيه»، الذى حارب فى معارك إسرائيل ورعى تدميرها لحياة الشعب الفلسطينى، بل شارك فى وأد هذه الاتفاقية بنقل السفارة الأمريكية للقدس، وغيرها، فضلًا عن تنصُّل أمريكا «ترامب» ذاتها من الاتفاقيات التى وقّعت عليها، كاتفاقيات المناخ، وغيرها.
ثالثًا: وما ذكرناه بالنسبة للولايات المتحدة، يصح بدرجة أكبر على «الأمم المتحدة»، فهى لم تنتصر لقضية، أو دافعت عن حق، بأكثر مما هو متاح لها من وسائل وأدوات تأثير وهامش للحركة، وهو أقل القليل. فالخيوط كلها فى يد مجلس الأمن والدول المتقدمة الكبرى، وقد سبق أن ساندت «الأمم المتحدة» قضايا عديدة، منها قضية شعب فلسطين ذاته، بمئات البيانات التى تُدين الممارسات الصهيونية، دون أن تملك أدوات تحويل أى من مواقفها إلى واقع ملموس، بل أُجبرت على التخلى عن بعضها، كإعلان اعتبار إسرائيل دولة عنصرية، وغيرها.
وما قيل بالنسبة لموقف أمريكا و«الأمم المتحدة»، ينطبق بالضرورة على الدول الإفريقية ومنظمتها، والجامعة العربية ودولها! ويقودنا الحوار إلى النقطة الثالثة والأخيرة، فأيًا كانت النتائج، على المحورين السابقين، فتظل مصداقية المثل الشهير: «ما حكّ جلدك مثل ظفرك» قائمة، وهو ما يعنى بالنسبة لنا، أن دور الشعب المصرى فى تحدى الأزمة، ومواجهة مخاطرها وتداعياتها، هو الأساس فى أى قرار ستتخذه الدولة بهذا الشأن، وهو ما يحتاج بالفعل لنقاش هادئ وموسّع.