رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

منع الأغانى لا يُجدى فى زمن السماوات المفتوحة «٢-٢»


استكمالًا لمقالى السابق بعنوان «الأغانى الشعبية بين المنع والحرية».. فإن المنع التام من جانب رئيس نقابة الموسيقيين فى تقديرى هو قرار متعجل، ينبغى إعادة النظر فيه، وذلك فى التعامل مع قضية أغانى المهرجانات وهوجة أغانى المؤدين الجدد، لأنه فى تقديرى ينبغى مواجهة هذه الأغانى بشكل أكثر تريثًا.. وأكثر إدراكًا لمعطيات الواقع الحالى، والنظر فى التغييرات المتتالية التى حدثت فى المجتمع وتعدد وسائل الاتصال والتواصل فى العصر الذى نعيش فيه، وفى زمن السماوات المفتوحة.
صحيح أن هناك فوضى فى الأغانى فى بلدنا، وصحيح أن هناك كلمات خارجة وفجة لا يصح أن تقال فى الأغانى، ولا يقبلها أى شخص حريص على الارتقاء بالذوق العام، وصحيح أننا فى حاجة إلى التصدى لهوجة الكلمات الخارجة، سواء فى الأغانى أو الدراما أو الأفلام، وصحيح أننا نرفض هوجة أفلام البلطجة والعنف والمخدرات المغالى فيها، لكن الحظر والمنع والضرب بيد من حديد ليست هى الحل الأمثل فى مواجهة الفن، لأن نقابة الموسيقيين لديها وسائل عديدة، وأدوات مختلفة لتصحيح المسارات والتوجيه والنصح والتصريح بالأغانى أو الحفلات، فحينما أصدر نقيب الموسيقيين هانى شاكر قراره بمنع ظهور أغانى ما يسمى «أغانى المهرجانات» فى أى مكان منعًا تامًا من الأندية والأفراح والتليفزيون والمقاهى والحفلات، فإنه بذلك قد جعل من هؤلاء المؤدين ضحايا بعد أن ملأت أغانيهم الساحة المصرية منذ سنوات، ويستمع إليهم الملايين من الناس فى كل مكان وليس فى الحارة المصرية فقط. بل تبث أغانيهم فى السيارات الخاصة وفى سيارات الأجرة والميكروباصات وفى البيوت والساحات والشوارع والمقاهى والأفراح الشعبية وفى الأندية والأفراح، وفى الأرياف وتبث فى معظم الأحياء المصرية بشكل مستمر.. إن الحل ليس فى المنع التام لأن المنع معناه حكم قراقوش، أى أن تفرض اختياراتك على الشعب، وأن تجعل الشباب والمراهقين والمحبين للأغانى الشعبية أو الحديثة أو التافهة والراقصة يبحثون عن وسائل أخرى متاحة لمتابعتها. إن ما أدهشنى مؤخرًا بعد صدور قرار المنع أن أرسل إلىّ أحد الأصدقاء شريطًا مصورًا على الموبايل لأغانى المهرجانات لـ«حسن شاكوش وعمر كمال» التى تم منعها مؤخرًا فى مصر والشريط المصور يتضمن لقطات مصورة لشباب وشابات يرقصون على أغانيهم فى شارع الشانزليزيه فى قلب باريس، وهم شباب مصريون وعرب وأجانب، وأيضًا لقطات بالموبايل على اليوتيوب لشباب يرقصون على أغانى المهرجانات فى شوارع لندن، أيضًا، وفى حفلات فى الدول العربية، فهل سنمنع الأغانى فى شوارع العالم أيضًا؟ إن الغناء العشوائى والراب وسائر أنواع الفنون الحديثة والشبابية يا سادة بكل أشكالها الحديثة، سواء أحببناها أم لا، هى فنون متاحة للجميع وفى كل مكان وبوسائل عديدة، إلا أننا أيضًا لا بد أن يكون صدرنا رحبًا وأن ندرك أن مختلف أنواع الفنون، سواء الجيدة منها أو الفجة، تزيدها انتشارًا وسائل الاتصال الحديثة، فلم يعد التحكم فى أذواق الناس ممكنًا، ولا يصح أن يكون التصدى لما ترفضه النقابة من الأغانى بالمنع التام والفرم والذبح والإعدام لأن هؤلاء المؤدين هم إفراز مجتمع شهد تغيرات كبرى ألقت بظلالها على كل الفنون. وعلى كلمات وسلوكيات الناس، ودورنا كمثقفين وأهل فكر وإبداع أن نوجههم للأفضل وللأرقى ولضرورات مراعاة الذوق العام، وأن نأخذ بأيديهم لنوجههم التوجيه السديد، وأن نرتقى بأدائهم وبكلماتهم التى فيها عبارات خارجة، إنهم نتاج مجتمع وأسر ومدارس لم توجههم أو تعلمهم الرقى والذوق والكلمات اللائقة التى يصح أن تقال والتى لا يصح أن تقال، إننا إذا ما عدنا إلى كبار الموسيقيين المصريين والمغنين فى ثلاثينيات القرن الماضى وما بعدها سنجد أنهم كانوا يغنون بكلمات يمكن لو رجعنا إلى بعضها سنجد بينها كلمات فجة وبعضها خارج وبعضها أيضًا سطحى لكن المنع لم يمنع انتشارها فيما بعد.
إن نقابة الموسيقيين يمكن أن تقوم بدور فعال وأكثر إيجابية بأن تمر كلمات الأغانى على المصنفات الفنية وأن توجه المؤدين والمطربين الجدد إلى اختيار كلمات أفضل ودون أن تنحصر أغانيهم فى منطقة الفجاجة أو الخروج على الآداب العامة.. إن هؤلاء المؤدين الجدد هم انعكاس فترة تغييرات كبرى مرت بها مصر فلا ينبغى أن نتعامل معهم كمجرمين، بل وصل الأمر إلى أن وجدنا من يقول عنهم إنهم أخطر من الإرهابيين.. وهذا اتهام فى رأيى مغال فيه جدًا.. ولا وجه للمقارنة فيه.. إننا فى حاجة إلى نظرة مراجعة لقرار المنع والحظر لأنه أشبه بالإعدام دون محاكمة ولن يكون الإعدام مجديًا فى عصر الاتصالات وفى عصر السماوات المفتوحة.. لأن هناك وسائل كثيرة لا حصر لها لوصولهم للناس وبدلًا من استبعادهم تمامًا اجعلوا نقابة الموسيقيين بيتًا للمراجعة والتصحيح والتوجيه، لأن الأغانى الشعبية والراب المصرى يمكن بشىء من التوجيه أن يكون وسيلة لبعث البهجة لدى الشباب ومن الممكن أن يكون وسيلة للتنفيث عن مشاكلهم بإيقاعات راقصة وكلمات مقبولة.. وفى نفس الوقت لا بد أن ندرك أن الأغانى الشعبية هى مصدر للفرحة وللشجن أيضًا وللتنفيث قبل كل هذا عن المستمعين لها وهى تمتع الشباب وتفرح البسطاء فى الأفراح والأندية والكافيهات والسيارات ومن الممكن أن نرتقى بالذين يؤدون الأغانى الشعبية ودون أن نصدر عليهم حكمًا بالإعدام والمنع والعزل وكأنهم مجرمون أو بلطجية من النوع الخطر على الناس.. إنهم ليسوا مجرمين.. إنهم فقط شباب ضاعت منه بوصلة اختيار الكلمات الراقية والمناسبة والمعبرة عنهم دون فجاجة.
ولا بد أن ندرك أيضًا أن العملة الجيدة تطرد العملة الرديئة وأن تاريخ الفن يؤكد لنا أن الفن الجيد هو الذى يبقى. وتتناقله الأجيال جيلًا بعد جيل، وليس بالضرورة أن يكون كل الغناء على نمط واحد أو وتيرة واحدة، لأن الأذواق تختلف وتتغير ولا تبقى على حالها، ومن الممكن أن نجعل من المؤدين الجدد والموهوبين مغنين منهم يقدمون أغانى شعبية متميزة ومبهجة دون إسفاف أو فجاجة.
من الممكن أن نوجههم وأن نجعل منهم تيارًا فنيًا شعبيًا شابًا دارسًا وواعيًا ومتميزًا ومتذوقًا لغناء شعبى أفضل وأكثر رقيًا.
من الممكن أن ندفعهم لتقديم فن شعبى وأغانٍ شابة تطرب المستمعين الكبار والشباب أيضًا وتبث البهجة فى النفوس.. أعطوا فرصة للمغنين الجدد مع وضع ضوابط وأسس تتلاءم مع الذوق العام، أما المنع التام فلم يعد مناسبًا ولا ملائمًا فى زمن السماوات المفتوحة وفى عصر الحريات.