رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العالَم فى الجيوب والحقائب





لم يكبر الإنسان لكنه صغَّر العالم. وكان كتّاب أفلام وروايات الخيال العلمى يتخيلون فى أعمالهم أن شكل الإنسان سوف يتبدل مع التطور، بحيث يمسى رأسه ضخمًا جدًا على بدن هزيل للغاية، لكن التطور العلمى بدلًا من أن يغير الإنسان قام بتصغير الكوكب كله فى شكل موبايل، بحجم علبة سجائر، محشور فى جيوب البنطلونات وحقائب اليد.
أصبح بوسع الإنسان وهو فى باب اللوق أن يرى ويلم بتفاصيل الخناقة التى نشبت بين امرأتين فى شارع جانبى فى نيويورك بعد لحظات من وقوعها أو أثناء نشوبها، وأن يتابع النزاع بين الرئيس الروسى «بوتين» والبرلمان فى موسكو بمجرد أن يُخرج العالَم المضغوط من جيبه ويحدق بشاشته لحظة، ثم يحشر العالم ثانية فى جيبه ويواصل سيره ليشترى الخبز والفول المدمس.
استطاع الإنسان بالعِلم وحده أن يجمع ملامح الكوكب ليجعله تحت بصره وسمعه، وأحيانًا إرادته فى أى ساعة، ومع عظمة الإنجازات العلمية فى مجال الطب وغيره، إلا أن خطورة العلم فى خلق كوكب متكامل بوسائل التواصل كانت أكبر أثرًا حتى من اكتشاف البنسلين، والقضاء على السل، وعمليات تغيير الأعضاء وما شابه. ولعل المطبعة كانت أول الاكتشافات التى وضعت الأساس لوحدة الكوكب، ولإمكانية تصغيره، وحشره فى الجيوب. وبعد أن اخترع جولد سميث جوتنبرج المطبعة فى ألمانيا عام ١٤٤٠، انتشرت الطباعة فى العالم فى بدايات القرن السادس عشر، ونتيجة لها ظهرت الصحافة، أولى وسائل تصغير الكوكب، وما لبث أن قدم العِلم اكتشافًا جديدًا هو الإذاعة، التى بثت برنامجًا لها لأول مرة عام ١٩٠٦، وفى ١٩٢٠ بدأ انتشار المحطات الإذاعية فى أمريكا وأوروبا ثم مصر وغيرها. ولم يكن يعيب ذلك الاكتشاف الجميل سوى أنه يضغط العالَم فى شكل صوت فقط، دون أن يكون مرئيًا، لذلك واصل العلم اكتشافاته فقدم السينما، أعجوبة ذلك الزمان، وعُرض أول الأفلام التجارية فى العالم فى ديسمبر ١٨٩٥، فى الصالون الهندى بالمقهى الكبير فى باريس، وبعدها بعام واحد قُدم أول عرض فى مصر بمقهى زوانى بالإسكندرية فى يناير ١٨٩٦. وبعد أن كان العالم كلمة مقروءة بالمطبعة، ثم صوتًا بالإذاعة، أمسى مرئيًا وناطقًا، يتجول فى العالم ويجعل الكوكب أقل حجمًا.
لكن الإنسان النهم تمنى لو رأى وسمع العالم مضغوطًا صغيرًا مقاس صالة البيت، فاخترع التليفزيون الذى قدم أول عروضه عام ١٩٣٥ فى لندن، وكان أوليمبياد برلين عام ١٩٣٦ أول حدث جماهيرى يشاهده الجميع فى بلدان شتى، لكن داخل بيوتهم، بعد أن تم تصغير العالم إلى مقاس ٢٤ بوصة، ثم ظهر الفيديو للتسجيل والنسخ والبث عام ١٩٥١، وبدأ إنتاج شرائطه عام ١٩٥٩، وكان شريط الفيديو مدة ساعة يُباع بثلاثمائة دولار!، ثم ظهرت الأطباق اللاقطة، أو ما نسميه «الدِش» فى السبعينيات، فوحدت تليفزيونات العالم وأفلامه وبرامجه وجعلتها تحت بصر وسمع الجميع، إلا أن «فيسبوك»، ثم الموبايل «أو المحمول» يظل القفزة الأكبر، والأخطر، والأهم، ذلك أنه مع اختراع الموبايل كان الإنسان يضغط العالم إلى حجم علبة سجائر ويضعه فى جيبه، ويمسى بمتابعة أخبار العالم جزءٌ من الكوكب، كل ما يقع فيه يهمه ويؤثر فى مستقبله. الآن أصبح كل إنسان يسير وهو يحمل الكوكب كاملًا فى جيبه. إلى أى مدى وإلى أين يقودنا العلم؟ وهل تنشأ فى النفوس بعد كل تلك القفزات مشاعر التوحد الإنسانى والإحساس بأننا جميعًا أبناء كوكب واحد؟. لقد وضعنا العالم فى جيوبنا، فماذا بعد؟، هل نصونه من عوامل فنائه وفى مقدمتها إزالة الغطاء النباتى من على سطح الأرض، وتلويث المناخ، وتآكل طبقة الأوزون، والجفاف والتصحر؟. العالم الآن فى جيوبنا، يفضى إلينا أولًا بأول بكل شىء، ولن يكون بوسعنا أن نقول إذا أهملناه إننا لم نكن نعرف.