رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جلسة أسبوعية



الأيام تُنمى الأشياء وتُميتها، عندما حكيت لرحيل عن الموت قالت يا ست حُسنة «من رأى ملك الموت عليه السلام مسرورًا مات شهيدًا، فإن رآه ساخطًا مات على غير توبة، ومن رأى كأنه يصارعه فصرعه مات، فإن لم يكن صرعه أشرف على الموت ثم نجّاه الله، وقيل من رأى ملك الموت طال عمره».
هل هذا حديثها أم أنه قول ابن سيرين؟
لكنه بأية حال قول مفيد يمكنك التباهى بمعرفته فى جلستك الأسبوعية.
جلستى الأسبوعية! كل شىء يفقد طعمه الآن.. كنا نجتمع، نشرب القهوة، الزنجبيل، القرفة، نتبادل الأحاديث.. نميمة، كذبات صغيرة، تجميل، تعرية، لكنها أحاديث تنفّس عن الروح وتمنحها انتعاشًا، أحاديث لا يمكن للرجال أن يستمتعوا بها، فتأثيرها وقدرتها على تبديد الكآبة والحزن تكمن فى سريتها، النكات البذيئة، الأوصاف المحرمة، تبادل الخبرات، الوصفات، الضحك حتى تغرق العيون بالدموع، ونعود بعد هذه الجلسة مفعمات بالحياة، ويصبح كل شىء محتملًا وفى أحيان كثيرة جميلًا.
تفرقت المجموعة، مَنْ مرضت؟ ومَنْ ماتت؟ وبقى سؤال جلستى الأولى عالقًا: ماذا أحكى لهن، هؤلاء السيدات المتطلعات لى بين حاسدة وناقمة ومنتقبة بما يجعلها تتعجب وتقول: هذه هى الفلاحة التى تزوجها فؤاد بيه الكاتب!
تردين عليهن بابتسامة غائمة، إذا سألننى: ما الذى تحبينه فى نفسك؟، سأقول: ابتسامتى التى أنقذتنى فى كثير من الأحوال وحيّرت من يراها وأعطت انطباعًا بالرضا والسعادة.
ما الذى يمكن لى أن أحكى عنه؟ جذورى.. لا أعرف إلى أين تمتد بل ويبدو لى أنها جذور ضعيفة تطفو على سطح مجرى مائى ضحل، لا أعرف شيئًا عن جدى، ويبدو أبى دائمًا وحيدًا دون عزوة أو أصدقاء، يؤدى مهامه ثم يتخذ مكانه على طرف المجلس، ليرحل دون أن يميزه أحد.
لا شىء فى ماضٍ مميز، لا تفاصيل غنية.. لا أسرار، ماذا أحكى..
«فؤاد» قليل الكلام عن عائلته، وكان هذا مريحًا بالنسبة لى.. أتاح لى فرصة البحث، وكان يفاجأ بمعرفتى بعمته «فايزة» وزوجها، ويسألنى كيف عرفتِ؟
- إنت كل أدراجك مفتوحة.
وغير الأدراج المفتوحة، الصور المعلقة على الحائط فى السرايا، صور أقارب فؤاد.. رجال بملابس رسمية، بدل سوداء، تزينها نقوش لأوراق نباتات ذهبية، أحذية لامعة مقدمتها رفيعة.. سيدات بجوارب من النايلون سوداء أنيقة، لا تخلو الأصابع من خاتم تلمع فصوصه فى سواد الصورة، واليد بها جوانتى أبيض، ابتسامات، اطمئنان، رضا. صورة لفؤاد طفلًا بالعقال العربى.. ما الذى تغير فيه؟ صورة لوالد فؤاد وبصحبته ثلاثة أطفال، الوالد يستند إلى الكرسى الذى تجلس عليه طفلة جميلة بشعرها اللامع القصير الذى ينسدل على جبهتها، وفستانها الفاتح يرتفع عن ركبتيها، و«فؤاد» يضع يده حول كتفها، وهو يرتدى جاكيت من الصوف، وتحته شورت من نفس القماش واللون.. ولما سألته عنها قال إنها «حياة» ابنة عمه.
- أين هى؟
- ماتت.
صورة زفاف والديه: والده ببدلة سموكنج سوداء وقميص أبيض، والبيبيونة البيضاء تتوسط عنقه، والطربوش المائل قليلًا لليمين يزيد من طوله مقارنة بعروسه، التى تقف مرتكزة بجسدها على قدمها اليمنى، بينما تحنى اليسرى قليلًا حتى تحاذى نهاية ذقن العريس ولا تزيد، حذاؤها من الساتان، والفستان من التُل المشغول بالفضة الذى يتجاوز طوله ركبتها قليلًا، والجوانتى الأبيض يمتد إلى ما بعد كوعها، وشعرها القصير تبدو أطرافه من تحت الطرحة التى تمتد بجانبها طويلًا على أرضية الصورة.
من الصور يستطيع زوجى أن يقول إنه ابن.. وابن..
بل إن رجلًا مغربيًا جاء إليه بشجرة نسب يعود جذعها إلى الإمام الحسن وجذرها إلى المصطفى، وطلب منه أن ينضم إلى جمعية النسل الشريف، ورسم الاشتراك خمسة جنيهات لتحسين أحوال آل البيت.
أما أنا فمن أكون، حُسنة بنت حسين الفقى..
من رواية «استقالة ملك الموت»