رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زيارة أخيرة لأم كلثوم.. من لا ذاكرة له فليصنع واحدة

علي عطا
علي عطا

العمر كله مجرد محطات يتأملها المسافر٬ فواحدة تسعده ويرضى عنها٬ وأخرى تؤلمه٬ وثالثة لا يشعر بها٬ ورابعة ينظر لها مندهشا متسائلا: هل بالفعل مرت على هذه المحطة؟

في روايته الأحدث "زيارة أخيرة لأم كلثوم" والصادرة عن الدار "المصرية اللبنانية"٬ يواصل الكاتب علي عطا٬ ما بدأه في روايته الأولى "حافة الكوثر" والتي صدرت قبل ثلاثة أعوام عن نفس الدار، ففي روايته الجديدة٬ أو ما يمكن أن نعتبره جزء ثان من الرواية الأولي٬ نحن أمام نفس البطل "حسين" والذي يواصل في خطاباته إلى صديقه المغترب "الطاهر يعقوب".

وإن كانت هذه المرة أشبه بالتداعي الحر٬ فكيفما تعرض بطلنا "حسين" بموقف ما في حياته اليومية تذكر أيام نشأته الأولى في "عزبة عقل"، حيث عمل في مهن شتى من بينها "التحبيش" وهي إحدي خطوات صناعة أقفاص الخضر والفاكهة من الجريد، ويتذكر كيف كان يرسله والده ليبتاع له الحشيش٬ ويتساءل: لماذا يراسلني أنا؟ ولماذا لم يشتري حشيشة كما أشتري "سنة الأفيون"؟ إلى أن يتوصل للسبب الذي أخبره به أحدهم٬ من أن بائعي الحشيش لا يعملون نهارا بعكس باعة الأفيون.

تنطلق الأحداث هذه المرة بخير وفاة خالة الراوي البطل "أم كلثوم" ويستدعي الراوي طرفا من أخبارها وحكاياتها٬ وما يرتبط بها من حياته الأولى في مدينة المنصورة، وكيف أنها آخر الراحلين من إخوة أم الراوي الأشقاء وغير الأشقاء، فيتقاطع السرد الآني بزمن الحاضر٬ مع زمن السرد الماضي٬ تلتبس الذاكرة٬ وتمارس إغوائها الأخير٬ حتى أن البطل سيسأل نفسه مرارا٬ هل حدثت هذه الأمور بالفعل٬ وهل عشت هذه الحوادث من قبل أم أن الذاكرة الانتقائية قد نسجتها من عدم؟! أو بكلمات "ماركيز" التي صدر بها الكاتب روايته: "من لا ذاكرة له فليصنع له ذاكرة."

كذلك هناك شخصيتن نسائيتن من "حافة الكوثر" ألا هما زوجته السابقة "سلمي السكري" التي صارت الآن طليقته٬ وتطارده دوما عاتبة استجابته لطلبها الطلاق منه، وزوجته الأولى أم أولاده "دعاء" وما جرى لها من تغيرات أحوال وتحولات طباع مست جوهرها نفسه.

يواصل الراوي رصد هذه التغيرات منذ أن بدأت تتلقى الدروس الدينية في منزل إحدى صديقاتها على يد أحد الدعاة٬ ممن استقر على تسميتهم بـ"الدعاة الجدد" فوضعت الحجاب٬ وصارت تردي بالسلام عليكم على تحية صباح الخير٬ ورغم أن الأب يوم عيد ميلاد أبنه لم يجد غضاضة من تواجد بنتيه في صالة المنزل وأصدقاء "باهر" ابنه يدخلون حجرته٬ تغضب دعاء وتأمر البنات بدخولهن غرفهن!

وهو ما يعكس التدين الشكلي المظهري الذي أصاب أغلب أفراد الشعب المصري٬ منذ سبعينيات القرن المنصرم، وهو ما يوثقه "حسين" من خلال خطاباته لطاهر٬ وكيف أنه شهد تنامي الجماعات الإسلامية في المنصورة٬ وتصاعد نجمها حتى أن الأمن كان ألغى زيارة السادات للمنصورة خوفا عليه من نشاط هذه الجماعات٬ والتي نجحت في اغتياله فيما بعد.

لم تكن هواجس الراوي العليم وحده ما بين زمنين، أولهما زمن المنصورة فى الطفولة والصبا، بكل براءته وتلك الأيام النقية، بعيدا عن الهموم، وإن لم تخل تماما من الشجن، فما زال حسين يحمل بقلبه ندبة عن الخال الذى قتل الأعداء٬ أو الآخر الذي فقد عينه خلال إحدى التجارب العملية التي كان يجريها في كليته٬ ورفضت الجامعة أن تصرف له تعويضا.

وحتى الشخصية الانتهازية الجشعة التي تتخفى زبيبة الصلاة "أبو كامل" الذي يرى أن الأرض أرض الله ما دام قد وضع يده عليها، مازال يخطط للاستيلاء على الفيلا المقامة عليها مصحة الكوثر ليحولها إلى برج سكني أو إداري.

نجح الكاتب في خلق تاريخ شخصي لأفراد عاديين من ملايين المصريين٬ الذين لم يجدوا من يؤرخ لحيواتهم كأفراد بعينهم٬ فالتاريخ لا يهتم فقط سوى الزعماء والسلاطين والملوك٬ فجاءت "زيارة لأم كلثوم" لتسد جزء من هذا النقص٬ في تأريخ لبعض من وجوه مصرية٬ عاشت على هذه الأرض يوما ما٬ وفي زمن ما مرت من هنا٬ فكانت الرواية شاهدا على وجودهم في هذه البقعة من الأرض وهذا الجزء من التاريخ.