رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يوسف زيدان: قرأت لـ«شكسبير» وأنا فى أولى إعدادي (حوار)

يوسف زيدان
يوسف زيدان

لا يزال يوسف زيدان قادرًا على صدم جمهوره فى كل مرة يتحدث فيها، وهو ما يعتبره دورًا أساسيًا له، لا يقترن برغبة فى إثارة أو صنع صخب، بل هو «طريق صعب، كثير من الكتاب يتحاشى الدخول فيه، لكن تجاهلنا له لا يؤدى إلا لمزيد من التدهور على الصعيد العام». وإلى جانب ذلك، يسعى «زيدان» إلى تفكيك الأوهام الثابتة فى العقل الجمعى المصرى، إذ يقول: «مسيرتى فى السنوات العشرين الأخيرة مرتبطة دائمًا بعمليات تصويب الخرافات والأوهام التى عششت فى مجتمعنا». ومع ترشحه للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر»، للعام ٢٠٢٠، بروايته «فردقان: اعتقال الشيخ الرئيس»، التى يتناول فيها قصة حياة الفيلسوف العربى الكبير ابن سينا، الذى سبق له أن تناول شخصيته وحياته وفكره، فى العديد من أبحاثه ومقالاته- التقته «الدستور» فى حوار مختلف، تحدث فيه عن رحلته مع الكتابة، وأعماله الأولى، وانكساراته أمام الناشرين، وكيف وصل إلى ما هو عليه الآن. وبالطبع تطرق الحوار إلى «فردقان»، وإن رفض يوسف زيدان أن يتحدث عن ترشحه لـ«البوكر»، رغبة منه فى عدم التأثير على النتيجة.



هل تتذكر أول كتاب قرأته؟
- بدأت القراءة مبكرًا جدًّا بشكل لا أفهمه، كنت شغوفًا بالقراءة منذ الطفولة، وقطعت أشواطًا كبيرة فى سن مبكرة، وأذكر حينما كنت فى الصف الأول الإعدادى، وعمرى ١٣ سنة، قرأت لـ«شكسبير» ولم أكن أعرف كثيرًا من المفردات، ولم يكن البحث سهلًا مثل تلك الأيام، فكنا نستعين بكتاب «مختار الصحاح».
■ متى أمسكت لأول مرة بقلم لتكتب؟
- فى آخر سنوات الدراسة الجامعية، وعمرى حوالى ٢١ سنة، كان هناك كتاب «المقدمة فى التصوف لأبى عبدالرحمن السلمى» وهو تحقيق لمخطوطة لا يوجد منها سوى نسخة واحدة فى مكتبة بلدية الإسكندرية، فشعرت بشىء من المسئولية تجاه هذا النص التراثى.
وهو كتاب صغير على أى حال، ونُشر بعد عدة سنوات، لأن الناشرين وقتها كانوا يستخفون بى ويرون أننى أصغر من أن أنشر كتبًا فى التراث العربى، لكنى فى النهاية حققت الكتاب ووضعت مقدمة له، وكان ذلك أول ما كتبت، ثم نشرت فى الخامسة والعشرين كتاب «عبدالكريم الجيلى.. فيلسوف الصوفية» ثم كتبت فى جريدة «الأهرام» مقالات وأنا فى السادسة والعشرين من عمرى.
■ ما الصعوبات التى واجهتها فى سبيل النشر؟
- قضيت عامين أبحث عن ناشر لكتابى: «المقدمة فى التصوف» و«عبدالكريم الجيلى»، وكنت أحضر من الإسكندرية إلى القاهرة، وفى إحدى المرات، ذهبت إلى مكتبة «مدبولى»، والتقيت الحاج محمد مدبولى، فنظر إلى الكتابين، ولم يكن يجيد القراءة، وسألنى: «دول إيه؟»، فأجبته: «كتابان فى التصوف»، فكان رده: «التصوف مش وقته.. اعمل حاجة سياسة.. السياسة حالها ماشى»، فضحكت وقلت له: «أنا لست كاتبًا سياسيًا».
انتهى بى المطاف بعد ذلك فى شارع بالأزهر اسمه «الصنادقية»، ووجدت رجلًا جالسًا فى مكتبة فقلت له: «عندى كتابان كذا وكذا»، فقال إنه سينشر كتابًا واحدًا وطلب منى أن أختار أحدهما للنشر، فقلت له: اختر أنت، فاتفق معى على نشر كتاب «المقدمة فى التصوف»، وقال لى: «هديك مائتى جنيه على دفعات»، وافقت، وكل مرة حصلت على ٢٠ جنيهًا.
■ كيف عمل يوسف زيدان على تطوير نفسه فى الكتابة؟
- بالقراءة، وإعمال العقل فيما أقرأ، وربط الظواهر التاريخية واكتشاف انعكاساتها على الواقع وتأثيراتها على المستقبل الآتى، واتخاذ موقف فكرى مبنى على معرفة حقيقية وليست تصورات باهتة تم ترويجها إعلاميًا.
كذلك عن طريق العناية باللغة والحرص على أن تكون واضحة ومعبرة وقوية، لأن اللغة هى مرايا التفكير، فكلما ازدادت موسوعة اللغة دل ذلك على قوة التفكير، والعكس كلما ترهلت اللغة دل ذلك على فوضى ذهنية لدى الفرد والجماعة.
■ ممن استفاد يوسف زيدان؟
- فى الفترة التى نشأت فيها، كانت الإسكندرية متميزة فى مجالات الدراسات الفلسفية نسبيًّا عن القاهرة، وحظيت بمجموعة من الأساتذة الكبار، ومنهم من تعلمت منه مباشرة، ومنهم من كانت كتبهم مقررة علينا ولم ألتق بهم إلا لاحقًا، مثل الدكتور عبدالحميد صبرة أو الدكتور محمد ثابت الفندى، ثم كان هناك جيل سابق على أساتذتى المباشرين، منهم الدكتور على سامى النشار.
وفى بداية التسعينيات، عندما بدأت التفاعل الشخصى مع الواقع الثقافى المصرى فى القاهرة، كنت أندهش كثيرًا من انشغالهم بأمور قتلناها بحثًا فى السبعينيات، وكانت فى القاهرة يعتبرونها من أحدث الأمور.
واستفدت كثيرًا من رحلتى فى التراث وعالم تحقيق المخطوطات، وأود القول إن مسيرتى فى السنوات العشرين الأخيرة مرتبطة دائمًا بعمليات تصويب الخرافات والأوهام التى عششت فى العقل الجمعى لدى الأفراد والجماعة ككل، وهذا طريق صعب وكثير من الكتاب يتحاشى الدخول فيه، لكن تجاهلنا له لا يؤدى إلا لمزيد من التدهور على الصعيد العام.
■ بمناسبة تصويب الخرافات.. هل روايتك «فردقان» تدخل فى هذا الإطار؟
- المسألة ليست تصويب التاريخ بقدر ما هى عملية توجيه الأنظار نحو مناطق مضيئة فى التاريخ، ففى الوقت الذى يتم فيه إعلاء السفاحين وتقديمهم أبطالًا، هناك كثيرون قدموا للإنسانية إنجازات كبيرة، منهم «ابن سينا» وغيره، فكانت روايتى الأخيرة «فردقان» وعنوانها الفرعى «اعتقال الشيخ الرئيس» عن واقعة فرعية، وهى اعتقاله فى قلعة «فردقان»، وهذه القلعة اكتشفت بالمصادفة فى وسط إيران، فى منطقة قاحلة.
وكانت عندى أيضًا الوقائع المعروفة عن «ابن سينا»، لكن بينها فجوات كبيرة، وهناك أسئلة لم يُجب عنها التاريخ، مثل شغفه بالنساء وهو الحكيم البارع، وحالة التنقل من مكان إلى آخر، وضياع كثير من أعماله العلمية المهمة، سواء المبكرة، مثل أول كتابين له، أو الكتاب الأخير الذى وضع فيه خلاصة موقفه الفلسفى، وكتاب كبير كان بعنوان «أسرار الحكمة المشرقية»، لكن ظلت هناك كتب ووقائع تحتاج إلى شىء من التفسير والفهم.
ومن مساحات الفراغ، تلك التى سكت عنها التاريخ، يستطيع التأليف الروائى أن يمزج بينها، وأن يقدم صورة متكاملة عن الشيخ الرئيس أبوعلى بن سينا، كإنسان وعالم وفيلسوف وفرد من أمة مرت بظروف شبيهة بما نمر بها اليوم.
من هنا كان اختيارى لـ«ابن سينا»، وكان عملى فى هذه الرواية عبارة عن مزج ما بين الخيال الروائى والوقائع الفعلية، لتقديم صورة نابضة بالحياة عن «ابن سينا» الذى يتباهى به العالم، ولا نعرف عنه هنا إلا اسمه وبعض عناوين مؤلفاته التى لم نقرأها بشكل واسع.
■ تتعدد الأمثلة عبر التاريخ عن المظلومين.. لماذا «ابن سينا» تحديدًا الذى استهواك للكتابة عنه؟
- أولًا، العلماء والفلاسفة عانوا كثيرًا حتى من قبل الإسلام، مثلا فيثاغورس وهو إحدى العلامات الكبرى فى الإنسانية، كان يعيش فى جزيرة ساموس فى اليونان، وهاجم الجهال مدرسته وأحرقوها وطُردت الفيثاغورسية من اليونان ولجأت إلى الإسكندرية فيما بعد، وذلك لأن فيثاغورس كان يعلم البنات مع الصبيان فى المدرسة، ما اعتبره الجهال فى زمنه شيئًا يستوجب الحرق والطرد.
كذلك سقراط، كان يسعى لكشف الحقائق ومواجهة حالة التشويش الذهنى والخبل العام، وهى الحالة التى أشاعها السفسطائيون وكان مصيره الموت، وأيضًا الكثير من العلماء والفلاسفة اضطهدوا وبعضهم يمثل وقائع مشهورة، مثل جاليليو الذى لم ترض الكنيسة عن اكتشافه، لأنها لا تستطيع أن تفسره، كما ورد فى الكتاب المقدس.
وهناك فنانون اتهموا بالشعوذة فى أوروبا فى العصور الوسطى وأحرقوا، وكُتاب تعرضوا لأذى نفسى وبدنى. وحتى عصر قريب فى أوروبا عانى كاتب شهير ونابغة مثل فولتير من حكام عصره. هذه المسألة لا تخص التراث العربى تحديدًا وإنما هى ظاهرة عالمية، فإذا كان العالم الذى يأتى بشىء لم يعتده الناس، يعيش فى مناخ يسوده الجهل والغباء الاجتماعى، فمن السهل على أى جاهل أو غبى النيل منه.
وما جرى فى تاريخ الحضارات جرى أيضًا عندنا وربما بصورة أطول، لكن الأمم تنتبه بعد حين، فبعد عصر العقل فى أوروبا انتبه الأوروبيون إلى مكانة جاليليو، لكن فى ثقافتنا لا ننتبه، فمثلًا أبوبكر الرازى والفارابى وأبوالريحان البيرونى وابن سينا وابن الهيثم هؤلاء عاشوا واقعًا مضطربًا جدًا وتعرضوا لأذى كبير، والحلاج قُتل وابن البواب قُطعت يداه.
هناك تاريخ لعذاب العلماء فى تراثنا يماثل ما حدث فى بقية الأمم، لكنهم استفاقوا، بينما نحن لم نستفق بعد، وما زلنا نكرر الأخطاء نفسها، لأن العقل لم يعمل من هنا كانت قضيتا إعمال العقل وتحريك الركود الذهنى وإشاعة التفكير النقدى. نحن نتحدث عن الثورة الثقافية فى العقول والأذهان عبر تشغيل الصفة الوحيدة التى يتميز بها الإنسان وهى العقل والمنطق والحكمة.
■ هل ترى أن حال الأغنية والأدب وما أصابهما من ابتذال يعبر عن واقع البنية الثقافية؟
- معروف طبعًا أن الأدب والفن والفكر مرايا للواقع، إذا ارتقى هذا الواقع أو كان متطورًا جاءت الفنون والأفكار والآراء متطورة، وبالعكس، لكن ماذا ننتظر من أمة لا تزال شواغلها الأساسية تتمثل فى الحجاب، وهل يجب أن ترتديه النساء أم لا، وهل كان يصح أن ترتدى هذه الممثلة هذا الفستان، فهذا يدل على خواء فكرى وتفاهة ذهنية متأصلة فينا ولا بد من الانتباه لذلك، لنخرج من هذا الخبل العام الذى يسود العقول على مستوى الأفراد وعلى مستوى الجماعات العربية، ناهيك عن الحروب المشتعلة هنا وهناك بسبب التعصب المذهبى، وكل هذا يسهم فى تدهور الواقع العربى، ويدل على أنه سوف يزداد تدهورًا فى المستقبل القريب.
■ دائمًا ما تكون آراؤك صادمة ومغايرة للثوابت.. ما مصادرك التى تستند إليها؟
- إن كنت أعيد النظر فى واقعة تاريخية، فمصادرى هى المصادر التاريخية المعتمدة على الحقيقة، لكن يخرج أحد المهرجين فيتهمنى علانية بأننى لا أعود إلى المصادر الأساسية ولا يذكر ما هى هذه المصادر، وعلى الأقل، كل ما صرحت به من آراء أو ضربت به أمثلة، موجود فى كتبى الأخرى، فأنا لدىّ ٧٥ كتابًا صفحاتها تتجاوز ٣٥ ألفًا، لكن هذا المهرج يعتمد على أن الناس لن تبحث فيرمينى بالاتهامات ظنًا منه أننى سأتحول إلى موقف المدافع عن نفسى، وأنا لا أدافع عن نفسى فى شىء.
■ تتنقل فى رواياتك بين مستويات تاريخية عدة: ما قبل النبوة والإسكندرية إبان التعصب المسيحى والعصر الحديث وأخيرًا عهد ابن سينا.. ما الضوابط التى تحكم خيال يوسف زيدان ورواياته؟
- الإنسان واحد فى كل هذه العصور، قد تختلف اللغة والمسميات، لكن الإنسان واحد والتعصب المذهبى واحد، والحديث الكذاب باسم الإله واحد، والكذب وتضليل العموم واحد، فأنا أبحث عن الإنسان بين طبقات التاريخ، هنا وهناك، فعلت هذا فى «ظل الأفعى» وفى «عزازيل» ثم بحثت عن الإنسان فى العصر الواقع عبر الثلاثية الواقعية «محال» و«نور» و«جونتنامو» ثم ذهبت إلى فترة ما قبل الإسلام فى «النبطى» ثم بعد الإسلام بقرون برواية «فردقان»، وهكذا أنتقل بين المراحل التاريخية سعيًا إلى استكشاف الإنسان المتوارى خلف هذه السحب والحجب والأستار الثقيلة التى تحجب روح الإنسان المستنير والمتوهج والصراعات التى تكتسى بطابع من القداسة الوهمية لخداع الجمهور فى سبيل تحقيق مصالح أفراد معينين.
يرى كثيرون أن الريادة تنسحب من تحت أقدام المصريين.. فكيف يمكن مواجهة ذلك؟
- إذا كان المقصود هو الريادة الثقافية التى كانت لمصر فى النصف الأول من القرن العشرين فما يقوله هؤلاء صحيح تمامًا، بل لا وجه للمقارنة بين المكانة التى احتلتها مصر فى القرن العشرين فى الثقافة العربية وفى السياسة عمومًا، وبين ما هى عليه الآن، وربما كان الحديث المتكرر عن قوة مصر الناعمة فى السنوات الأخيرة أخذ يفقد مصداقيته يومًا بعد يوم حتى أصبحنا بالفعل فى حالة حرجة، ويمكن رصد ذلك من خلال أمثلة لا حصر لها، فمثلًا كانت الجوائز العربية يذهب فى المعتاد أكثر من نصفها إلى مصريين فى كل المجالات، وبدأ هذا الأمر يتضاءل وتنخفض النسبة حتى تكاد تختفى تمامًا، فمثلًا جائزة البوكر كان أول فائزين بها مصريين، لكن فى السنوات الأخيرة لم تشهد الجائزة فوز مصرى واحد.