رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الملاك».. فى حب مجدى يعقوب

مجدى يعقوب
مجدى يعقوب

مثل قلائل من العباقرة والعظماء، يحيا ويعيش باحثًا عن الكمال. يعرف أنه أمر يقترب من المحال. نعم، لكنه لا يبالى بنظريات أكبر الفلاسفة، ولا يتقيد بخطوط أيًا كانت مرجعيتها، ويؤمن دائمًا بأنه بمقدوره تقديم المزيد للبشرية، لذا قرر أن يقضى حياته ويفنى عمره لأجل خدمة الإنسانية بكل ما هو جديد.

يقول أسطورة الشطرنج الروسى كاسباروف، فى جلسة فلسفية حول الحياة مع المدرب الإسبانى بيب جوارديولا، أسطورة كرة القدم فى العصر الحديث: «أزمتك أنك دائمًا تبحث عن المثالية فى لعبةٍ التوفيق والقدر جزء منها، فمهما فعلت وخططت واكتشفت الجديد، فى النهاية يوجد شىء اسمه التوفيق واللا توفيق».

ورغم إيمان «جوارديولا» بذلك، لم يستجب للمشككين فى مثاليته، والناقدين أسلوبه، لأنه وفق ما يقول: «إذا لم يصل للمثالية فى حد ذاتها، فمن المؤكد أنه سيكون الأكثر تميزًا، وسيصل لقمة ما يمكن الوصول إليه»، وها هو بالفعل يقدم أفضل ما جاء عبر تاريخ كرة القدم.
تذكرت هذا الموقف بين أسطورتين يتحاكى بهما العالم جميعًا، وأنا أستمع إلى حوار أسطورة ثالثة هو الدكتور مجدى يعقوب مع «سكاى نيوز عربية»، حيث قال إن سر نجاحه وتميزه هو بحثه عن الحقيقة والمثالية، الأمر الذى يدفعه دومًا للوصول إلى أعلى مستوى من التميز.
هكذا هم العباقرة بلا سقف أو قيد، فرغم ما قدمه «السير» من إنجازات ومعجزات للبشرية، فإنه لا يزال يؤمن بأن ما وصل إليه العلم لم يقترب من نصف ما سيتم اكتشافه فى المستقبل، لذلك لم ينحنِ أمام تقدم السن، ولم يخضع لأى ضغوطات مورست على شخصه منذ كان شابًا وحتى يومنا هذا.
منذ صغره كان السير مجدى يعقوب لا يحب الحديث كثيرًا، بات أسطورة عابرة للقارات لكن العالم لا يعرف الكثير عن شخصه، فى كل حواراته ولقاءاته يهرب من كل ما هو خاص، ولا يعتنى بأن يكيل إليه الآخرون المديح.
كلما تقدم العمر به ازداد شبابه وعطاؤه ومردوده، لا تثنيه شيخوخته عن العمل بروح ويدى شاب فى مقتبل العمر يقاتل ساعات طويلة يوميًا، دون الحصول على قسط أو راحة.
مثله من العظماء، وفى هذه السن المتقدمة وما يمتلكه من قيمة وثروة، بمقدوره أن يمكث فى أكبر الجزر وأن يشترى بلدانًا كاملة تحت أقدامه، لكنه قرر أن يبقى متواضعًا مثلما عاش عشرات السنين، خادمًا للفقراء، ومعطاءً لكل محتاج، لذلك كان ولا يزال وسيبقى خالدًا فى ذاكرة العالم، سيدًا لقلوب الجميع.
حينما كان صغيرًا قادته ظروف قاسية نحو معجزة انحنى لها الغرب ونصبه بسببها «سيدًا للقلوب»، فكما تقول الحكمة المتوارثة: «من رحم المعاناة تولد المعجزات»، نجح الشاب مجدى يعقوب فى أن يحول المعاناة التى شاهدها وقت وفاة عمته فى شبابها وهى بعمر ٢١ عامًا، بسبب عدم وجود علاج للمرض الذى أصابها فى القلب حينها، إلى أم المعجزات العلمية والطبية، ليقدم لملايين من البشر حلولًا وأفكارًا أسهمت كثيرًا فى إنقاذ أرواح وتبديل أعمار.
حينما كان شابًا صغيرًا كان شاهدًا على مأساة أسرته هذه. سأل والده الجراح الشهير عن الأسباب التى أدت لوفاة عمته، وكان الحدث حينها مأساة للعائلة جميعًا، فأجابه بحقيقة مرض القلب الذى يصعب علاجه.. فى تلك اللحظة قرر بعزم الواثق أن يبذل كل شىء لأجل أن ينقذ آلافًا وملايينَ من أبناء عمومته من ذوى الإنسانية.
نصحه والده بأن يبتعد عن قسم الجراحة المعقد والصعب للغاية، لكن إصراره وطموحه وحلمه كان أكبر من أى قيود، مثلما عاش بعدها محطمًا كل العقبات و«المطبات» التى قد تعوق أى شخص آخر غير «يعقوب».
فى بداية مشواره وجد صعوبة بالغة فى الانسجام داخل المجتمع البريطانى، مثلما يقول، فهم أناس لا يقبلون أى شخص بسهولة، لكنه، بمزيد من الصبر والجهد والعطاء، فرض موهبته على الجميع، وبات الكل فى حاجة له وليس العكس.
استمر فى العطاء منذ مطلع ستينيات القرن الماضى فى مستشفيات وجامعات لندن حتى بداية هذه الألفية، وقدم للإنجليز والعالم معجزات علمية أسهمت فى تطوير طب القلب والرئة، حتى انتقل إلى «ملعب الخير» ليصبح أهم لاعبيه فى العصر الحديث، ويصبح عنوانًا ورمزًا تفتخر به البشرية.
فى بريطانيا، تحول من مناطق البشر لموقع «القديسين»، وسار وحده فى سماء لا يضاهيه فيها أحد، ولم يحدث ذلك فقط لعظمة ما أقبلت عليه ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية بمنحه «وسام الاستحقاق»، بل لتجربته التى حملت معها كل معانى الإيثار والتضحية وإنكار الذات من أجل خدمة المجتمع، أى مجتمع كان، وأى شخص مهما اختلف شكله أو لونه أو دينه، فهو إذا أردنا أن نكون محقين أب لكل الأديان والأجناس فى هذا العصر.
يرى «السير» أن الطب هو خدمة للمجتمع والبشر، ولا يكتفى بكونه جراحًا وطبيبًا مرشده الوحيد لعلاج الحالات، التى تأتيه من كل صوب، البحث العلمى والنظريات الأكاديمية فحسب، بل يستخدم حكمة فيلسوف نبيل وصل لمرحلة من التدبر والتفكير لا تتأتى لبشر عاديين.
ينصح الجميع فيقول: تجنبوا الحزن لأنه سر كسر القلوب، ويرى فى سماع موسيقى عمر خيرت خير دواء لأى ألم، ويؤمن بأن النجاح يكمن فى الإيمان بالمبادئ التى لا تتيح مساحة لثغرات وأخطاء، لذلك حينما قرر تأسيس مركزه الطبى فى أسوان همّش أى محاولة للوساطة فى اختيار العاملين، أو استقبال الحالات التى تتم معالجتها، فبات صديقًا للفقراء، وأحبه الأغنياء أيضًا، لأنه لم يبع ضميره ووقته ومبدأه مهما كانت الإغراءات.
نحو ١٠ آلاف عملية مجانية سنويًا يجريها السير مجدى يعقوب، الذى سخر حياته لخدمة البشرية، وها هو يبدأ مشوار حلم جديد بمركز مجدى يعقوب العالمى فى القاهرة، الذى لقى ترحيبًا واهتمامًا غير مسبوقين، وشهدت دولة الإمارات التى كرمته ليلة الخميس الماضى بداية خيالية للمشروع، بعد جمع تبرعات وصلت إلى ٨٨ مليون درهم إماراتى، بينما كنا نحن جميعًا مشغولين بمتابعة صبية من الجهلاء السُذّج يمزقون قيمتنا ولا يعون ماهية مصر وما تمثله للعرب والعالم من قيمة تكمن وتُختصر فى شخص «السير مجدى».
لذلك مهما لمع نجم محمد صلاح، ومهما بنى محمد رمضان من ثروات وأموال، ومهما بلغ غيرهما من الشهرة والثروات لا يستطيع أحدهم أن يقترب من مكانة «السير» فى قلوب العالم وليس المصريين فحسب، فعندما تبحث فى سير جميع النجوم والكبار بهذا العصر فستجد لأى منهم منتقدين وكارهين، بينما يبقى «السير» وحده فى مكانة بعيدة عن الجميع.
حينما نريد عدّ إنجازات «أمير القلوب»، فنحن لا نمتلك المساحة الكافية هنا لتسطير تاريخ عظيم قدمه شخص استثنائى للإنسانية والبشرية.
ما قدمه للطب وعلم جراحة القلب بدأ فى مستشفى «هارفيلد» فى عام ١٩٦٢ببريطانيا، حينما قال له الإنجليز: «ابعد عن القلب، وعد إلى بلادك».. كلمات محبطة تهد أى كيان وتحبط عزيمة أى شخص، تلقاها مجدى يعقوب الشاب فى بداية مشواره من مجتمع لا يعرف المجاملة ولا يميل للمحاباة كثيرًا، شككوا فى قدراته، وحاولوا إيهامه بما يعتقدون حول جراحة القلب وتعقيداتها.
لكن لأنه صاحب عزيمة غير طبيعية، ويعى هدفه جيدًا وما يحيطه من مصاعب، أصر على استكمال مسيرته بالسهر والبحث والتنقيب فى كل مكان، فانطلقت معه حقبة جديدة من الاكتشافات بدأت بتأسيسه برنامج الزراعة فى مستشفى «هارفيلد» عام ١٩٨٠، وبحلول نهاية العقد نفذ هو وفريقه ١٠٠٠ عملية، وأصبح المستشفى المركز الرئيسى لزرع الأعضاء فى المملكة المتحدة، وقبلة العاجزين فى كل مكان فى العالم.

كان عقد الثمانينيات بمثابة الانطلاقة الحقيقية للمعجزة مجدى يعقوب، فشهدت تلك الحقبة على تطويره تقنيات زراعة القلب والرئة، ثم تلاها بـ«أم المعجزات الطبية» حينها، عندما حطم كل النظريات والأرقام، وأجرى أكبر عدد من عمليات زراعة القلب فى التاريخ، حيث فاق عدد العمليات حينها ٢٠٠ جراحة سنويًا.

الغريب أن هذا الرقم الذى كان بمثابة المعجزة، فى ظل إمكانيات تلك الحقبة، لم يثنه عن استكمال مشواره الأكاديمى والبحثى، فقدم مجموعة أوراق بحثية ظلت مرجعًا لأكبر أطباء جراحة القلب حتى يومنا هذا.
فى عام ١٩٨٣، كان «يعقوب» وكنّا جميعًا مع موعد مع التاريخ، حينما زرع قلبًا لرجل إنجليزى يدعى «جون ماكفيرتى»، تلك العملية التى أدخلت «السير» موسوعة «جينيس» كأطول مدة يعيشها شخص بقلب منقول، وذلك لمدة ٣٣ عامًا حتى توفى عام ٢٠١٦.
بعد هذه الإنجازات وتلك الحقبة الذهبية فى تاريخ الطب، ارتفع «يعقوب» فى عيون أبناء المملكة المتحدة إلى السماء، وتحول لشخص يقدسه الجميع، ومع قلائل أصبح حاملًا للقب «السير»، وما أدراك ما أن تكون «سير» فى بلاد الإنجليز، فأنت تتحول معه إلى ما يشبه نصف «إله».
ولعل جمهور كرة القدم يعرف كيف يقدس الجمهور السير أليكس فيرجسون الذى صنع معجزة «اليونايتد» بأرقامه الخيالية فى نهاية الألفية الماضية، بالتزامن مع معجزات «يعقوب» ذاتها.
ومثلما كانت بداية دخوله عالم طب الجراحة بدافع إنسانى بحت، بدأ «يعقوب» منتصف تسعينيات القرن رحلة جديدة من خدمة البشر، اتخذ فكرتها من معاناة قديمة أيضًا. ففى طفولته شاهد أطفالًا كثيرين يعانون وأسرهم أشد المعاناة، بسبب ضعف القلب وعدم القدرة على العيش أو حتى الموت، فما أصعب أن يكون إنسان مستقرًا لفترة ليست بقليلة بين الحياة والموت، ويموت كل من حوله بسبب آلامه نفسيًا؟!
كانت تلك المشاهد التى علقت بذاكرة «يعقوب» وهو طفل دافعًا لإطلاق سلسلة الأمل فى منتصف تسعينيات القرن الماضى، فبدأ برفقة مجموعة رجال أعمال يتبرعون بالمال، والبحث عن أطفال الدول النامية الذين يعانون ويحتاجون للتدخل الجراحى، فوظف فى كل بلد نامٍ طبيبًا يبحث عن تلك الحالات، وبدأ يستقبل كل شهر فى لندن ٣ حالات من تلك البلدان يتم تقديم العون لها دون أى مقابل، وهكذا عرف ومن يدعمه كيف ينقذون حياة الآلاف من الأطفال فى كل مكان.

فى عامه الخامس والستين شعر «يعقوب» بأنه لا يستطيع أن يستمر كلاعب يجرى ويبذل الجهد البدنى الكبير، وقرر أن يعتلى مقاعد المستشارين ليفيد بأفكاره وذهنه وأبحاثه، لكن الأمر لم يدم طويلًا، وحينما برزت إحدى العمليات المعقدة لمريض كان قد زرع قلبًا جديدًا دون إزالة القلب القديم، وتعرض حينها لكارثة طبية كادت أن تنهى حياته، لم يجد «يعقوب» مفرًا غير أن يعود لاعبًا، وكعادته أفلح فى إنقاذ روح جديدة بمعجزة إلهية أخرى.
ثم امتد عمله الخيرى فى مصر من أجل فقراء الصعيد، من خلال مركزه فى أسوان، وها هو الأمر يتطور ويتسع، ليبقى «يعقوب» متسقًا مع مقولته الشهرية: «لا أريد أن تفتر همتى.. إنه أسلوب حياتى وأستمتع به».