رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بين تكريم مجدي يعقوب.. وثقافة العشوائيات!


تعال شريكي في معايشة الواقع المصري الحالي في زمن التحولات المتسارعة بمجرى نهر حياتنا المجتمعية؛ لنلقي نظرة على هذا النهر العتيد بعد اصطداماته العنيفة بصخور ثورتين عارمتين في مدةٍ وجيزة من الزمن؛ اختُطفت الأولى واستردتها الأخرى! فكان من الطبيعي أن تُجرّف أسنَّة محاريث تلك الثورات تربة المجتمع وتقلِّبها من جذورها لتظهر الديدان والطحالب والحشائش الضارة على السطح؛ كي تقوم شمس الأصول ـ لا شمس الأصيل ـ بتجفيف جذور ومنابع تلك الطحالب المندسة وتقتل الديدان التي توحشت وفاقت في أحجامها ثعابين «الأناكوندا» التي تعيش في أحراش مجرى نهر «المسيسيبي» وروافده؛ وما أدراك بما يأتينا من شاطئيه الملعونين من محاولات مستميتة لمحو أو- على أقل تقدير- تمييع مسارالهوية المصرية!

ولكن الحيرة فيما نبدأ في الإضاءة عليه؛ أو محاولة التلامس مع ما يدور على الساحة في اللحظة الآنية، فالجنازة حارَّة على الشاشات وعبر الأثير في برامج الإعلام المصري؛ في ملء المساحة الزمنية بكل ما هو غث وساقط في عالم الأغاني فيما يسمَّى بأغاني المهرجانات- أو التهريجات بالمعنى الصحيح- أو الإسهاب في الأحاديث المطوَّلة مع لاعب كرة ممن حالفهم الحظ- لا الموهبة- في تسجيل هدف في شباك «الخصم» (هكذا يسمونه بدلًا من كلمة «المنافس»)، والبون شاسع بين المعنيَيْن! وهو ما يعكس الهُوَّة السحيقة الموجودة في مفاهيم الثقافة التي تحكم المجتمع الآن؛ وهي الابن البكر للعشوائيات الفكرية والاقتصادية، قبل عشوائيات المسكن والمأوى والملبس والمأكل!

ولكن وقفة البداية التي تشد انتباهنا وسط كل هذا الطوفان والزحمة أو «الزفة الكدَّابة» بحسب التعبير الشعبي المصري العبقري؛ هو التغافل عن حفل تكريم «السير مجدي يعقوب» دكتور وملك القلوب وجرَّاحها؛ هذا التكريم الذي تمَّ على يد حاكم دولة الإمارات العربية الشقيقة في مشهد إعجازي رائع؛ ومقدرة د. يعقوب في الحصول على ما يزيد على خمسمائة مليون جنيه لبناء مستشفيات لعلاج الفقراء في أرجاء مصر- التي كانت- المحروسة، وما زال الأدعياء وملوك الطبل الأجوف يرددون على «واحدة ونصْ» وبأنصاف وأرباع «الآلاتيَّة» بمنتهى الإسفاف: «مهلبية على كريمة» و«هاتي بوسة يا بت!»، أو الاحتفاء بمن أصبحوا بين عشيَّة وضُحاها من رموز حاملي الأسلحة البيضاء والنارية؛ التي انعكست على الممارسات اللاواعية بين الشباب المراهق في الشوارع بل الأطفال أيضًا، ولم نر أحدًا من هؤلاء- وللإنصاف نقول: إلا مَن رحم ربي- الذين استنزفوا ونهبوا ثروات الوطن بفنونهم العرجاء والضحك على ذقون أصحاب ثقافة العشوائيات الفكرية الضحلة؛ قد بادر بالإسهام في شيء من هذا القبيل لصالح الوطن، ويكتفون بادعاء الثورية والصراخ في كل المحافل: باحبك وانشِـد: «يا وطنطن، واتباهى بحبَّك يا وطنطن!».

وقد يهرع بعض المهرطقين وملوك السفسطة؛ للدفاع بأقلامهم- وجيوبهم طبعًا- عن هذه الموجة الرعناء التي ابتليت بها الفنون المصرية- إلا مَن رحم ربي- ويستشهدون بما كان من بعض الإسفاف في بداية غنائيات سيد درويش وكامل الخُلعي وبهية الكلوباتية وسنية شخلع؛ مرورًا بعبد الوهاب وأم كلثوم والأدباتية في تلك العصور، ونسَوا- أو تناسوا- أن ذلك قد تم تحت مظلة الاحتلال الإنجليزي وانتشار بيوت الشوارع الخلفية، للإبقاء على لقمة العيش وعدم التعرض للمنع والبطش.. والموت كمدًا أو جوعًا، وهؤلاء السوفسطائيون- للأسف- لا يستطيعون التفريق بين معاني كلمتي «العُلمَاء» و«العَوَالِمْ» بالمعنى المصري الدارج! ولا بين «مصر الجديدة» أو «مصر القديمة» إلا عند اللجوء إلى استخدام وسائل المواصلات العامة.. إذا- لا قدر الله- استخدموها! فهُم أصحاب السيارات الفارهة وأرقام الحسابات في البنوك.. واللهم لا حسد، إلا ابتغاء وجه الله والمصلحة والمصالحة الوطنية الحقيقية بين المجتمع وما يفرزه من مواقف صادقة وفاعلة؛ تؤثر بالإيجاب على مسار ومسيرة الأجيال الصاعدة نحو الآفاق الأنقى والأرحب!

ولكننا- برغم هذا الطوفان والضباب وسحاباته المُعتمة- نلمح تباشير الضوء المقاوم لهذه التيارات من القائمين على وزارة الثقافة ومؤسساتنا الأكاديمية؛ الذين يحاربون كل مظاهرالقُبح في مجتمعنا، ولكن يبدو أنه ينقصهم منحهم حق «فرض السيطرة» على منتجي القطاع الخاص لهذه الترهات التي لا تمُت للفنون بأدنى صلة.

والسؤال الذي يبحث عن إجابة شافية: هل نحن في حاجة إلى «ثورة ثقافية» تجتاح الوسط الفني بكل فروعه الأدبية والشعرية والغنائية والسينمائية والمسرحية، مثلما فعلت فرنسا والصين وبعض الدول، ولم تتورع تلك الدول عن إغلاق المدارس والجامعات لمدة عامين، وتم إطلاق الكوادر الشبابية المدربة المؤمنة برسالة الإعلام والفنون السامية في المصانع والمزارع والحقول؛ لتلقين البشر معني القيم الجمالية المطلوبة لارتقاء المجتمع.

والأمل ألا نقف كثيرًا في الانتظار، حتى لا تأكلنا ثقافة العشوائيات وقبل أن تأكل في طريقها الأخضر واليابس كالديدان والطحالب؛ التي ما زالت تقاوم شمس التغيير التي لاحت في سمائنا.. ولا نتمنى لها أن تغيب!

قطار الزمن يداهمنا.. وستحاسبنا الأجيال القادمة عمَّا قدمت أيدينا لهم.. فلا وقت للضياع؛ كي تعتدل كفة الميزان في أركان المجتمع؛ وليعرف الجميع الفرق بين «العُلمَاء» و«العَوالِمْ »!

* أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي بأكاديمية الفنون