رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مهرجان أسوان ينتصر للمرأة



لم ينتصر مهرجان أسوان لسينما المرأة فى نسخته الرابعة لنفسه ولفن السينما فقط، بل انتصر للمرأة فى العموم وثبت أقدامه وباقتدار على خريطة المهرجانات السينمائية المصرية التى اتسعت رقعتها مؤخرًا، وهذا توجه محمود نتمنى له الدوام بل والمزيد من التوسع.
لم يعد المهرجان يزاحم على استحياء بل وجد لنفسه موطئ قدم على هذه الخريطة والرقعة السينمائية وصار له أيضًا وجود وصدى عربى ودولى لافت النظر لفعالياته التى اتسعت وثبتت أقدامها.
إنه حدث سينمائى ثقافى بامتياز أنصف المرأة ورد لها الاعتبار بعد سنوات من الغبن خرجت بعدها المرأة من ظلمات الجهالة لنور الحياة والإبداع.
لذلك انتصر المهرجان فى هذه الدورة للمرأة المنتصرة، واحتفى بها وأظهر قوتها الظاهرة منها والمستترة ولم يعرض نماذج لنساء منبطحات يرزحن ويعانين.. وحتى من عانت منهن سرعان ما انتفضت وتشبثت بحقها فى الحياة وفرض نفسها على الوجود، مهما كانت العوائق أو المعوقات.
برمجة المهرجان هذا العام امتازت بالجدة والجدية، ولم يأت ذلك على حساب البهجة أو الاحترافية. أفلام العام كانت تستحق فى مجملها المشاهدة، ووقع مشاهدتها كان محببًا للنفس والروح، سرّ العيون وطربت له الآذان وانفتحت معه العقول والبصائر.
الأفلام امتازت بمستواها الفنى العالى، ولم يطغ ذلك على مضامينها ولا العكس، اختيار الأعمال المقدمة اقترب من المثالية دون مبالغة لدرجة وضعت لجان التحكيم على تنوعها واختلافها فى حيرة ومأزق كبيرين، فلم توفق وتتوج بعض الأفلام بالفوز فى مسابقات المهرجان لضعف مستواها، بل لجودة غالبية المعروض، وبالتالى صعوبة المفاضلة بين الجيد والجيد جدًا والممتاز، وفقًا للرؤى والذائقة ووجهات النظر، بل وظلمت أفلامًا لصالح أعمال أخرى من كثرة جودة المطروح فى سابقة أراها مبشرة وتنبئ بما هو أفضل، وآمل حقًا فى أن يسير المهرجان على ذات المنوال ولا يقبل بأقل مما قدم، بل يطمح دومًا للأفضل لصالح المتلقى ورواد المهرجان من أهل أسوان ولفن السينما فى العموم ولتربية ذائقة تعلو بمرتادى المهرجان من أهالى الجنوب ممن لا تسمح لهم الظروف اللوجستية وبعدهم عن العاصمة وفعالياتها، وعدم وجود دور عرض فى المدينة، فجاء المهرجان ليضخ فى شرايين المدينة دمًا وأكسجينًا لا غنى ولا عوض عنه لتربية تلك الذائقة وإثراء الحياة الثقافية للنشء هناك.
فالسينما ليست فقط أداة ترفيه أو وسيلة لإزجاء الوقت، بل هى أداة من أدوات التثقيف الحقيقية غير المباشرة وأداة من أدوات التغيير والحراك الاجتماعى الذى يتم ويتسرب للمتلقى بنعومة وبشكل تراكمى يداعبه وقد يصدمه، ولا توجه له رسائل خطابية منفرة، بل يمنحه بهجة ومتعًا بصرية تسر الناظرين ورؤى وأطروحات تسهم حتمًا فى بناء العقل وتربية الذائقة.
لقد تسنى لجمهور المهرجان مشاهدة فيلم كارتون طويل من الهند فيه من البهجة والألوان ما يسر العين، وفيه من الطرح ما يغنى العقل. فقد قدم الفيلم رسائل وأفكارًا مناهضة لأى طرح عنصرى أو تمييز دينى، ونبه لخطورة إقحام الدين والعرقية والنِّحَل وغيرها من الاختلافات التى تتسبب دومًا فى خلافات تؤدى للتطاحن وتنتهى بالقتل وسفك الدماء.
نبه وطرح قضايا غاية فى الأهمية وأعلى من قيمة الحب فى حيواتنا، وقدم الإنسانية على كل شىء، واستحق عن جدارة جائزة السيناريو. أما فيلم «منزل أجا» فحصد ٤ جوائز عن استحقاق، منها جائزة جمعية نقاد السينما المصريين.
فقد قدم وعن حق مرثية لحيوات ٤ من النساء لا يعرف بعضهن بعضًا، واضطررن للعيش معًا فى منطقة جبلية نائية، نظرًا لظروف الحرب فى البلقان، وما خلفته من مآسٍ.. وللنساء دومًا نصيب الأسد من ويلات الحروب.. ويقع على عاتقهن دومًا الحمل الأكبر بل وتحمل ذنوب وآثام الغير، ورغم ذلك استطاعت أولئك النساء المضى واستكمال الحياة بكل تفاصيلها المملة أحيانًا والصعبة فى أغلب الأحيان، وتشبعنا نحن واستمعنا لحواراتهن المطولة وثرثراتهن الإنسانية وحكاواهن المؤثرة حتى شجارهن شبه الدائم الذى ينتهى دومًا ببقائهن إلى جانب بعضهن بعضًا.
فكل امرأة تستمد قوتها من الأخرى وفى اجتماعهن قوة. وقدم الفيلم كل ذلك بلا ضجيج ولا نحيب ولا ميلودراما ودون تزيّد، فخرج العمل مبهجًا محكمًا مانحًا لمن شاهده طاقة كبيرة، وكأننا استنشقنا أكسجينًا فتح لنا شراييننا وبصائرنا.. ومن بوليفيا جاءتنا نوستالجيا فنية غزلت كالفسيفساء بنعومة وعذوبة واحترافية أعادت لأذهاننا أزمان النضال غير الملوثة مقارنة بواقعنا الذى صار فيه النضال مغرضًا وعادةً ما تكون له مآرب أخرى.. استحضر الفيلم شخصية تشى جيفارا واستشهاده وخلوده فى وجدان شعبه وتهافت أهل بلاده للاحتفاء به ولو ادعى البعض-حبًا- أنه قد التقاه أو تحدث معه أو عاش معه لحظاته الأخيرة أو منحه آخر رشفة من حسائه، وهو شىء لا يمكننا سوى التعاطف معه.
فاستحضار تلك اللحظة الوجودية فى تاريخ بوليفيا بل وفى تاريخ الإنسانية وتقديم نماذج من النساء اللاتى عاصرنه شىء يستحق الاحتفاء به.
فيلم «أليس» الفرنسى الذى تقرر بطلته تقرير مصيرها بنفسها متحدية ذكورية الرجل والمجتمع والقانون كان شيئًا يستحق الوقوف عنده.
فيلم البرازيل المبهج الملىء بالأمل والطاقة الإيجابية التى منحتها لنا بطلته السيدة العجوز التى ما زالت تحلم وهى فى الثمانين من عمرها بأن تصبح راقصة باليه متحدية كل السخرية وحالات التنمر التى واجهتها ممن حولها طوال أحداث الفيلم، دون أن يؤثر ذلك على حماستها وإصرارها على تحقيق ما تحلم به، وبخلاف الأفلام التى عرضت
قدم المهرجان هذا العام تقريرًا عن صورة المرأة العربية فى مجمل إنتاجات عام ٢٠١٩.
وطبع التقرير فى كتاب وهى بادرة تحسب للمهرجان وتقليد سنوى سيواظب عليه فى السنوات المقبلة، وتم منح جائزة هذا العام لأول مرة فى استفتاء أجرى مع النقاد المصريين والعرب لاختيار أفضل فيلم عربى لعام ٢٠١٩، فوقع الاختيار والتصويت على فيلم «آدم» المغربى ليكون هو فيلم العام.
أما الورش التى يقيمها المهرجان سنويًا لاكتشاف المواهب ومنح الفرصة لأبناء أسوان فى تعلم فن السينما، فستخلق حتمًا جيلًا من مبدعى السينما سيحملون راية الإبداع وسيخرج منهم كاتب السيناريو والمخرج والممثل. فورش المهرحان بمثابة معهد أو مصنع للإبداع ينتقل سنويًا لأهالى أسوان وينقل لهم تجارب وخبرات المحترفين والمتخصصين.
أما منتدى نوت لقضايا المرأة، فقد ثبت أيضًا أقدامه وأصبح يقف على أرضية صلبة وصار عصبًا ونشاطًا أساسيًا لا ثانويًا أو هامشيًا من أحداث وفعاليات المهرجان والذى يمكن وبمنتهى الأريحية اعتباره حدثًا ثقافيًا شاملًا متكاملًا لا يقتصر فقط على السينما، بل يُعنى بكل ما يخص شئون المرأة، وهى ثلاثة أرباع العالم وليست فقط نصف الدنيا، فى حين تركت ربعًا أخيرًا خاليًا يتحايل فيه الرجل دومًا لإرضائها وقد أرضاها مهرجان أسوان لسينما المرأة.
وفى ظنى سيستمر فى سعيه الدءوب ليس فقط لإرضائها أو إنصافها، بل الانتصار لها بانتصاره لنفسه ولفن السينما.