رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«حراس البراءة».. قصص فتيات أنقذهن خط نجدة الطفل من «مشرط الختان»

الختان
الختان

فى سنواتٍ سابقة، عانت فتيات كثيرات من ظاهرة الختان، ولم يكن بمقدورهن التعبير عن خوفهن أو الاعتراض على إجراء تلك العملية، التى تحرمهن من جزء من جسدهن، وعانى أغلبهن من الألم فى صمت دون أن يحدثن حتى أقرب الناس إليهن.

كان هذا فى السابق، أما الآن فأصبح بمقدور الفتاة الاستغاثة، لأن هناك من يحرص على سماعها وتلبية ندائها وإنقاذها من مشرط قاتل يقترب من جسدها ليجتزئ قطعة منه، ظنًا من الأهل بأن تلك القطعة ستنقذ الفتاة مستقبلًا من الانحراف، على حد اعتقادهم.

ورغم الألم الشديد والمعاناة النفسية التى تسببها تلك العملية للفتاة، فإن أكثر الفتيات اللاتى بلغن خط نجدة الطفل بالمجلس القومى للطفولة والأمومة «١٦٠٠٠» عن تعرضهن للختان، كن أكثر حرصًا على عدم إيذاء أهلهن، وطلبن من المسئولين عدم تعريضهم للمساءلة القانونية، فى الوقت الذى كان فيه الأهل حريصون على عدم وقوعهم تحت طائلة القانون أكثر من حرصهم على حياة بناتهم.

استمعت «الدستور»، لنداءات فتيات أنقذهن «الخط الساخن» من جحيم الختان، وكشفن عن كواليس اللحظات الأخيرة، التى كان القدر فيها أرحم من أهلهن، ليضربن بذلك مثالًا على الصمود والإصرار فى مواجهة عادة بغيضة ما زالت تعانى منها عدة قرى فى مصر.

هبة: عزاء فتاة أسيوط غيّر مصيرى
خبر وفاة طفلة بعد ختانها فى قرية «غالب» بمحافظة أسيوط سمعته «هبة. م»، ١٢ عامًا، كغيرها من فتيات القرية، وتعاطفت معها كثيرًا، لكن لم يمر سوى ٦ أشهر حتى وجدت نفسها تواجه نفس الموقف، بعدما أخبرتها زوجة أبيها بأنها ستجرى لها عملية ختان. الرعب أصاب الفتاة بمجرد سماعها تلك الكلمات، فلم يكن يمر أمامها سوى مشهد عزاء الفتاة، التى سبقتها وتوفيت جراء عملية ختان.

تقول: «تخيلت أننى سأصاب بنزيف حاد مثلها، وألقى نفس المصير، لكن جارتى تعمل طبيبة نصحتنى باللجوء إلى خط نجدة الطفل». تواصلت الفتاة بنفسها مع خط النجدة، وجاءوا قبل أن تحدد زوجة الأب موعد العملية، وأخذوا تعهدًا كتابيًا عليها بعدم إيذاء الطفلة، وأخبروا الوالد بنية زوجته فى ختان ابنته الوحيدة، وظلوا يتابعون معها لمدة ٦ أشهر. وتابعت «هبة»: «أنقذونى من الختان، وقاموا بحملة توعية ضخمة فى قريتى والقرى المجاورة».


منار يملؤه: أسرتى تعهدت بعدم إيذائى
بصوت منخفص يملؤه الخوف، هاتفت منار محمود، ١٣ سنة، فى أواخر ديسمبر من العام الماضى، الخط الساخن لنجدة الطفل «١٦٠٠٠»، قائلة: «ساعدونى، هيجبرونى على الختان». لم تنتبه «منار» من شدة خوفها إلى أن «المُجيب الآلى» هو من يحدثها، ثم تتبعت الخطوات، التى يرشدها إليها حتى أتاها صوت المسئول فلم يسمع سوى البكاء.
قبل تلك الواقعة بليلة واحدة، كانت «منار» عائدة من المدرسة مُرهقة للغاية بعد يوم دراسى حافل، فأسرعت نحو حجرتها لتستريح، إلا أن جملة واحدة خرجت من حجرة والدتها استوقفتها: «البنت كبرت لازم نعملها العملية.. دى بنتك الوحيدة».
علمت أن الحديث يدور عنها بالداخل بين والدتها وخالتها، التى أضافت: «بكرة هجيب دكتورة الوحدة ونشيل ليها الحتة دى عشان لما تتجوز تكون مرتاحة». تجمدت أطراف الفتاة خوفًا بعد سماعها تلك الكلمات، التى كانت إشارة واضحة إلى عملية الختان، التى تتفق والدتها وخالتها على إجرائها لها على يد طبيبة الوحدة فى قريتهما «الصفا» بمحافظة الشرقية.
لم تدر «منار» ماذا تفعل لإنقاذ نفسها من مشرط الختان، الذى ربما يكون قاتلًا كما حدث لغيرها من الفتيات، فلجأت إلى خط «نجدة الطفل». بلاغ «منار» هو واحد من ١٦٠ بلاغ استغاثة تلقاها خط «نجدة الطفل» منذ منتصف ٢٠١٩ حتى الآن، ورغم نجاح الخط فى إنقاذ ٩٠٪ من الفتيات فى اللحظات الأخيرة قبل إجراء العملية لهن، فإن النسبة المتبقية أجريت لها العملية، حسبما ذكره الدكتور صبرى عبادة، مدير الخط.
أنهت «منار» الاتصال مع خط «نجدة الطفل»، بعدما أرشدت المسئولين إلى عنوانها ومكان الطبيبة التى ستُجرى لها العملية، وحصلت على وعد بعدم إيذاء ذويها، الأم والخالة، أو التعرض لهما قانونيًا، مضيفة: «كل ما أريده هو ألا يتم ختانى فى هذه السن ولا يكشف أحد عورتى ويؤذينى نفسيًا وجسديًا».

لم تمر سوى ساعات قليلة حتى أرسل خط «نجدة الطفل» إخصائيًا نفسيًا وعالمًا أزهريًا وطبيبة ومحاميًا إلى عنوان الفتاة، لإقناع ذويها بالعدول عن قرار الختان. تقول «منار»: «استطاع العالم الأزهرى والإخصائى النفسى إقناع أمى بأن الختان ليس من الدين الإسلامى ولا يعف الفتاة كما يُعتقد، والطبيبة حذرتها من خطورة الأمر طبيًا». كل ما كان يدور فى خلد الفتاة، خلال تلك اللحظة، هو الخوف من أنه بمجرد رحيل مسئولى خط «نجدة الطفل»، تستدعى خالتها الطبيبة لإجراء العملية لها، لكنها اطمأنت بعدما أخذ المحامى إقرارًا كتابيًا على الأم والخالة بعدم إجراء العملية لها أو المساس بها بأى شكل وإلا سيتعرضان للعقوبة القانونية.
وأضافت منار: «شعرت وقتها بطمأنينة، خاصة أنه فى اليوم التالى تم إغلاق عيادة الطبيبة، التى كان من المفترض أنها ستجرى عمليات الختان للفتيات فى القرية، ومن يومها قلّت تلك العمليات فى قريتنا كثيرًا، وبذل خط النجدة مجهودًًا كبيرًا لتوعية الأهالى بأضرار وخطورة الختان».

مريم: هددوا والدى بـ«محضر شرطة»
اعتقادًا منه بأنها سُنّة لها أساس فى الدين وتعفّ بها الفتاة، صمّم والد «مريم»، صاحبة الـ١١ عامًا، على إجراء عملية الختان لابنته، على يد طبيب قرية «شطانوف» بمحافظة المنوفية، رغم رفض الأم والفتاة إجراءها.

وبعدما ضرب الأب موعدًا محددًا لإجراء العملية لابنته، ظلت الفتاة تبكى بشدة، باعتبار أن البكاء هو وسيلتها الوحيدة للتعبير عن رفضها القرار، ثم فكرت فى مخاطبة عمتها الكبرى، التى كانت ترفض عملية الختان برمتها. لم تستطع العمة إقناع والد «مريم»، كما ظنت الفتاة، خاصة أن أشقاءه أجروا عمليات ختان لبناتهم، فلجأت إلى خط «نجدة الطفل»، بعدما سمعت عن الحملة التى يقودها مؤخرًا ضد ختان الإناث. تقول: «مسئولو الخط أخذوا معلومات وبيانات شخصية عنى وعنوان منزلى، ووعدوا بإنقاذ الموقف قبل موعد العملية».
وقبل اليوم المحدد للعملية، طُرق باب منزل «مريم»، وحين فُتح كان مسئولو الخط قد حضروا. تقول الفتاة: «ساعتان من محاولة إقناع أبى بالعدول عن قراره دون اقتناع، فبدأ المحامى بتهديده بتحرير محضر ضده فى قسم الشرطة، واصطحابى معهم إلى القاهرة، حتى يعدل عن رأيه».

الخوف من المساءلة القانونية كان الدافع الأول للأب فى تغيير رأيه، بعدما أجبره المحامى، التابع للخط، على توقيع إقرار بعدم التعرض للفتاة بعد رحيلهم. تقول الفتاة: «مسئولو الخط ظلوا يتابعون معى لمدة شهرين تحسبًا من أن يُجبرنى والدى على العملية فى أى وقت».


منة: حميت شقيقتى ولن أتركها للمرارة
شريط من الذكريات مرّ أمام «منة. ح»، ٢٥ عامًا، حين علمت بنية والدتها ختان شقيقتها الصغرى «رحمة»، ١٢ عامًا، وقتها تذكرت ذلك اليوم الذى أجريت لها العملية فى السن ذاتها. تقول: «أتذكر جيدًا عملية الختان بتفاصيلها، والجزء الذى تم اقتطاعه من جسدى، والمعاناة التالية للعملية، فالصدمة النفسية لم تنته بالختان، وأتذكر أننى نزفت لمدة أسبوعين ولم يكن أمام أمى سوى تغيير ملابسى وفراش سريرى».

لم ترض «منة» أن تشعر شقيقتها بنفس الألم، الذى شعرت به، وتصدّت لوالدتها بعدما علمت بنيتها ختان «رحمة» وتشويه جسدها، كما فعلت معها. وأضافت: «أمى سيدة غير متعلمة، ولن تقتنع سوى بالعادات والتقاليد، فلجأت إلى خط نجدة الطفل وأخبرتهم بأن أختى سيتم ختانها». فى صباح اليوم المحدد للعملية، فوجئت الأم بحضور حملة من خط «نجدة الطفل» على الشارع بأكمله، وأخبروها بأن ابنتها استنجدت بهم، ولعبت الطبيبة دورًا هامًا فى إقناع الأم بمخاطر الختان، التى قد تصل إلى حد الوفاة، متأثرة بالجراحة.
تقول «منة»: «أخذوا تعهدًا كتابيًا على أمى بعدم التعرض لشقيقتى، وحين رحلوا شعرنا بأن رحمة كُتب لها عمرًا جديدًا، وأكثر ما أسعدنى أننى أنقذت أختى من أن تمر بما مررت به وما زلت أعانى منه إلى الآن، بقطع جزء من جسدها، لكنى وقتها لم أجد من ينقذنى بعد انفصال والدىّ».

نور: غلبت 4 سيدات حاولن «تكتيفى»
«كنت أشعر بكل ما يحدث لى، ٤ سيدات وأمى يحاولن تكتيفى بالقوة، إلا أننى لم أستسلم لقوتهن».. تلك الليلة مرت كالكابوس على «نور. ع»، ١٤ عامًا، يتيمة الأب، بعدما أيقظ صياحها أحد شوارع الجيزة فى منتصف الليل، حين كانت أمها تحاول جاهدة إجراء عملية ختان لها.
عرضت الأم على ابنتها فكرة الختان، فرفضت الفتاة الأمر بشدة فى البداية، بعدما تعلمت فى مدرستها أن الختان لا أساس له فى الدين. تقول الفتاة: «لم تقتنع أمى بذلك، واتفقت مع طبيبة تعرفها، واستعانت بـ٤ من جيراننا كى يساعدنها على تكتيفى جيدًا». وبمجرد ما حضرت الطبيبة إلى المنزل، أصيبت «نور» بحالة هياج عصبى، وبدأت تدافع عن نفسها بكل قوتها، وتقذف السيدات بأثاث الحجرة. تتذكر الفتاة: «وضعننى على السرير، كنت أشعر برعب شديد، نحو ٤ سيدات يحاولن تكتيفى، من يدى ورجلى».

لم تستطع النساء الأربع تكتيف الفتاة بسبب دخولها فى حالة انهيار وهياج عصبى، فتخوفت الطبيبة من إجراء الجراحة فى هذا الوقت، حتى لا تصاب البنت بهبوط حاد، وقررت تأجيلها ليوم آخر، فما كان من «نور» إلا أن روت لمعلمتها ما حدث.

استنجدت المعلمة بخط «نجدة الطفل»، وبمجرد انتهاء اليوم الدراسى، عادت «نور» إلى المنزل لتجد مسئولى الخط مع محامٍ وإخصائى اجتماعى، لم تطلب منهم شيئًا سوى إنقاذها وعدم تعريض والدتها للمساءلة القانونية، فأخذوا إقرارًا قانونيًا منها بعدم التعرض للفتاة مجددًا. وأضافت الفتاة: «بإمضاء أمى على الإقرار شعرت بأنه بمثابة شهادة ميلاد جديدة لى».