رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ياما في الشارع مهمين.. كشكول مشرد يكشف سرًا أخفته السنين ⁦(3-2)

جريدة الدستور


 

ما أن وصلت الأوراق التي صورتها وعليها كلام غير مفهوم لصديقي المهندس الذي يعيش في القاهرة، حتى وجدته منبهرًا، ويصيح ردا على رسالتي في الشات «يا ديني.. أنت جبت الورق ده منين ومين كتبه»، وبعدها بلحظات هاتفني عدة مرات متتالية حتى أيقظني قرب شروق الشمس كعادته في الاستيقاظ باكرا.

حينها كنت أحارب عيني ألا تغلق وتغط في النوم من جديد، حتى أفهم ما يقوله، حيث يبدو أنه أمرًا هامًا «الكلمات تشير إلى أن كاتبها يبدو مهندساً بحرياً كبيرًا، كما أنه كان في تخصص دقيق للغاية رغم أن الكلمات غير مرتبطة ببعضها، لكن الملاحين بالبحار في المعتاد لا يكتبون جملاً كاملة، ويكتفون بإشارات يدونوها»، وبعد لحظات طلب مني الصديق المهندس قبل أن تنتهي المكالمة إرسال الأوراق لزملائه في الهندسة البحرية.

(قليوب.. حسن.. المدرسة) حملت تلك الكلمات ربما تصل بي لأي نتيجىة، وفي صباح اليوم التالي وجدت نفسي في مدينة قليوب، وأسأل عن أسماء المدارس الكبرى الموجودة هناك، وأعرض صورة الرجل على بعض العاملين القدامى، ربما يتعرفون عليه.

«عايز قليوب المحطة ولا قليوب البلد، ما تحيرناش يا أستاذ».. كلمات قالها رجل ضخم البنية وشديد الملامح عندما ضاق صدره بأسألتي، وفي النهاية اصطحبني إلى أحد أكبر المعمرين بالمنطقة، حيث جعلني رده أغادر سريعا المدينة بأكملها.

«اسمي إسماعيل مصطفى (أبوعلي) من طوخ عند معامل التحاليل، ومبعرفش اقرأ ولا أكتب»، هكذا فاجأني الرجل المشرد مرة أخرى بعدما زرته حاملا معي قدر يكفيه من الطعام الجاف، لكني ابتسمت «يعني أنت إسماعيل ولا حسن ومن قليوب ولا من طوخ.. متحيرنيش، أنا ساكن في قرية بجوار طوخ وعارف المكان هسأل هناك على أسرتك»، لكن رده كان شديدًا وحاسماً «مش عايز أهلي ومش هروح»، وعاد مرة أخرى لمهمته التي لم تكن هذه المرة في الكتابة بل كانت بجَدل سلكي كهرباء قد عثر عليهما مع بعضهما، وكأنه يضفر شعر طفلة صغيرة متحدثاً إليها بعطف.

ترجلت حتى بائع الشاي، أحاول مرة ثانية فهم شيئ وحل اللغز، ورغم أنه تذكرني عندما أعطيته المال (تأمين مقابل كوب شاي كل يوم) إلا أنه بادرني بمفاجأة «الراجل بعد ما حضرتك مشيت يا أستاذ جه طلب الفلوس اللي أنت دفعتها عندما خيرته بين الشاي والمال».

واستطرد في حديثه «ما تتعبش نفسك معاه، أحيانا بنلاقيه ساب فرشته ووقف في الميدان يتحدث إلى نفسه وإلى اللاشيء، كدرويش فقد عقله».

عدت إلى المنزل في هذه الليلة الشتوية متخما بمعلومات متناقضة ومتضاربة، يبدوا أنها لا تصل إلى شيء، وعندما أعدت ترتيبها مرة أخرى في رأسي كان لدي استنتاجين لا ثالث لهما، الأول أن الرجل يفعل ذلك متعمداً، أو ربما هو فاقد للذاكرة (مريض زهايمر)، لكن كل الدلالات تشير إلى أنه كان أحد كبار المهندسين البحريين، ولا أحد يعلم الظروف التي آلت به إلى هذا الحال. 

وفي اليوم التالي، لم يحدث شيء، سوى أنه وجدني واقف أمامه مبتسماً، وهو يكتب في كراسات غير التي رأيتها مسبقاً لكنها بكلمات مختلفة عن التي صورتها مسبقاً «العيال جابولي كراسات جديدة علشان أنقشلهم الواجب.. وجابولي أكل». 

لكن زيارتي لمدينة طوخ كانت بداية لقصة غريبة ومذهلة عن الرجل.. نقرأها في الحلقة الثالثة والأخيرة.

رجل يكتب رغم أنه يقول أنه لا يقرأ ولا يكتب

 

ياما في الشارع مهمين.. كشكول مشرد يكشف سرًا أخفته السنين ⁦(3)

الساعة الآن التاسعة صباحاً.
صوت الراديو المعتاد يعلن اليوم أنه ثاني أيام شهر مارس من العام 2020، ويقول المذيع إن عدد المشتبه في إصابتهم بفيروس كورونا المستجد في مصر تخطى أكثر من 1400 حالة ووجود حالتين لمصابين تأكد إصابتهما بالفيروس، بالتزامن مع تلك الأنباء وصل مقطع الفيديو وعدد من الصور التى التقطها بهاتفي للرجل المشرد إلى هاتف صديق دراستي الذى تربى وسط عائلة كبيرة بمدينة الطوخ.
"الراجل قالى إنه من طوخ يا محمد من عند معمل التحاليل، ودى صورته وفيديو له وهو بيكلم، معلش اسألى كل الناس القدامى اللى تعرفهم فى طوخ عن الراجل ده وهو من عندكم ولا لا، ولو من عندكم إيه قصته لأنى مهتم جداً أعرف، وسألت عنه فى قليوب وعرفت إنه مش هناك، تصرفاته غريبة وبيكتب كلام غريب وبيوحي أنه مهم".
4 مارس 2020، بعد يومين، حدثني محمد علي مؤكدا وبشدة أن لا أحد من أهالى طوخ "تماً" يعرفه سواء السكان القدام أو الجداد "أنا بقالى يومين بلف بصورته لما عميت ومحدش يعرف عنه حاجه ولا يعرفه، والأرجح إنه مش من هنا".
قطع صديقي الطريق الذى سلكته فى سبيل الوصول لقصة المشرد ومحاولاتي البائسة لمعرفة ما يوجد خلف الكلمات التي يكتبها فى كشكوله الذى يمثل لغزاً لكل من أقص عليه قصته، وفى اليوم التالي كنت على موعد لتصوير حلقة تلفزيونية لبرنامج 90 دقيقة بقناة المحور الذى كان يقدمه الدكتور محمد الباز حينها، مع وزيرة التضامن الاجتماعي نيفين القباج وخلال التحضير للتصوير تحدثت مع المتحدث الإعلامي للوزارة الدكتور محمد العقبي وهو صديق قديم منذ أن كان إعلامياً، ورويت له وللوزيرة قصة المشرد "الذى يبدو أنه شخصاً مهما" لكنى لا أستطيع أن استكمل قصته.
قالت الوزيرة إنه "ياما فى الشارع مهمين" وإنهم كوزارة بها فريق للتدخل السريع لإنقاذ المشردين ومن ليس له مأوى، لكنهم يرفضون المساعدة أو الانتقال لدور رعاية خاصة أنهم اعتادوا حياة الحرية فى الشارع ولم يعتادوا على الحياة النظامية داخل المؤسسات، فلذلك لا يمكن إجبارهم على الانضمام لحياة أخرى غير الشارع، فيما نبقى على تواصل ونقدم لهم الدعم اللازم، مشيرة إلى أن الكثير من الحالات الذى وافقت على الانتقال لدور الرعاية اتضح أن منهم فنانون وموسيقيون ومرشدون سياحيين يتحدثون بلغات عدة لكن لسبب أو لآخر تحولت قصة حياتهم لمأساة وانتهت بهم فى الشارع وفى الأغلب يكون خلفها أزمات أسرية أو عاطفية.
ورغم كل ذلك ربطتني بهذا الرجل الذى لم أستطيع تحديد اسمه "إسماعيل" ولا "حسن" علاقة وطيدة، فكلما مررت يوماً من ميدان المؤسسة لا أنسى نصيبه من الطعام الذي ابتاعه لأولادي، وأتركه له بعدما يبادلني بابتسامته الهادئة الغريبة ويناديني بـ"يا راجل يا طيب".
وفى إحدى المرات كررت عليه اسألتي المعتادة "إيه اللي جابك هنا، طيب إنت متجوز؟"، لكن عيناه قد لمعت وتركزت معي عندما أثرت هذا الأمر عليه، ثم ظل صامت لنحو دقيقة ورد سريعا "لا ما اتجوزتش فى حياتي.. ومنهم لله"، ضغط عليه فى الحديث "هما مين اللى منهم لله"، نظر فى الأرض مُطأطَأ رأسه خجلاً ومستعيداً أجزاء لا أعلم إن كانت صحيحة أم من وحي خياله "أهل اللى حبيتها"، ولم ينطق كلمة بعدها مهما "تحايلت عليه"، فتركته وعدت أدراجي لكنى لم أنم من أثر كلماته.
رغم حديثنا المتكرر "ومن الحب ما قتل" لكن فى هذا الموقف يمكننا أن نقول "ومن الحب ما أضاع العقل".


 «ياما في الشارع مهمين».. كشكول مشرد يفضح سرا أخفته السنين (1)