رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«حتى يجد الأسود من يحبه».. ترنيمة عشق للأرواح الوحيدة

 الكاتب الروائي محمد
الكاتب الروائي محمد صالح البحر

نجح الكاتب الروائي محمد صالح البحر، في روايته "حتى يجد الأسود من يحبه" الصادرة حديثا عن دار روافد للنشر، في إثارة عقل القارئ بداية من عنوان الرواية؛ فمن هو الأسود٬ وهل السواد هنا مقصود به لون البشرة أم الروح أم النفس٬ أم نظرته لنفسه وللعالم من حوله. أم أن السواد هنا المقصود به تعاطيه مع العالم وكائناته وتعاطي العالم معه؟ كلها أسئلة محيرة يطرحها العنوان كعتبة نصية تحيلك مباشرة إلى تاريخ أبطال الرواية وحيواتهم.

القاسم المشترك بين أبطال الرواية هنا٬ أنهم منسيون هامشون منبوذون٬ متركون على قارعة الحياة. تجمعهم البناية السكنية المتروكة هي الأخرى على حافة الجبل بعيدا عن المدينة الكبيرة اللاهية التي لفظتهم بدورها ولا تدري عنهم شيئا. البناية السكنية هنا ليست حيز مكاني بقدر ما هي قوقعة تحتضن أولئك المنسيين بأوجاعهم وآلامهم٬ تستعين بالبحر لتضمد ندوب أرواحهم.

فهذه السيدة "فتحية" صاحبة البناية؛ هجرها ولدها الوحيد٬ هربا إلى الناحية الأخرى من البحر٬ وذاك الراوي "الوليد" أو "وليد"؛ صفعته الحياة منذ أنفاسه وصرخاته الأولي بعدما فارق رحم أمه٬ فتيتم مرتين٬ مرة برحيلها ومرة بكره أبيه المطلق له٬ حتى أنه حاول أن يقتله أكثر من مرة٬ ولم يتفهم أن وليده أيضا تيتم بفقد الزوجة الحبيبة التي لم تكمل معه عاما٬ لكنه فضل يتمه على يتم إبنه. حتى العمة التي كانت الملاذ والملجأ٬ ورغم أنها حاولت التكفير عن ذنب نسيانها له في غمار حزنهم علي الأم الشابة٬ برعايته وتربيته إلا أنها هي الأخرى تلفظه خوفا من شؤمه الذي ظنته قرينا له٬ غالبت طمعها وطمع زوجها في ميراث الوليد٬ ونفته بعيدا عن المرفأ الآمن الوحيد الذي عرفه.

ضمت البناية أيضا السيدة "ليلى" التي لم تسامح نفسها يوما على ما فعلته من جرم في حق حبيبتها "بشري" سواء بهجرها إلى علياء٬ أو فضحها أمام زوجها وأولادها٬ فانتهى بها المطاف للموت داخل أسوار المصحة النفسية٬ وانتهت ليلى إلى العزلة تقاسي آلام الروح وبرودة الوحدة القاتلة. السيد "موسى" هو الآخر اختار أن يكون وحيدا بعيدا عن زوجته وابنتيه٬ اختار عن طيب خاطر أن يواجه انتظار شبح الموت٬ كان لحبه الجارف لزوجته وابنتيه دافع وحيد لإبعادهن عنه٬ حبه لهن جعله يختار أن يسبل جيرانه عينيه للمرة الأخيرة حتى يجنبهن آلامه.

على النقيض من هذه الشخصيات٬ نجد مصاصو الحياة٬ سواء "مريم" التي خذلت هي الأخري وليد وتزوجت من إبراهيم الذي يضاهيها جاها ومالا٬ وتذكرت وليد فقط كرهان أخير يجب أن تكسبه في الحياة٬ ولو مقابل أن تخون من اختارته بكامل إرادتها الحرة. مريم لا تختلف عن "سعدية" تلك الزوجة الشرهة للجنس وملذات الجسد٬ فكادت تفتك بالوليد وتزهق روحه بعدما أفقدته براءته مبكرا. وتأتي "نوارة" هي الأخري وجه من وجوه النسوة اللاتي تركن لدى الوليد إحساس أنه منبوذ متروك كم مهمل٬ رسخن ليه شعور الرجل ذو البشرة السوداء داخل مجتمع كامل من البيض٬ وما يعنيه هذا من نبذ وكراهية واحتقار.

لكن تظهر "ميرو" كبقعة ضوء في آخر النفق المظلم٬ فتحيل العتمة لنور٬ ويجد الأسود أخيرا من يحبه. وكان ملحميا ذاك المشهد الذي رسمه "صالح البحر" في نهاية الرواية٬ عندما حدثت المعجزة واستجاب إله العشاق لرجاء بائعة الخبز٬ وتحولت أجساد العشاق الخمسة٬ إلى صخورا ضخمة مدورة على هيئة أرغفة طازجة٬ وأن يظل لونها فضيا ولامعا للأبد٬ فاستطاعت المرأة التي كانت تبيع الخبز٬ أن تستظل بالصخور على شاطئ البحر لبقية حياتها.