رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مفيد فوزى: آمال لا تزال عمدة القلب.. ورحيلها علمنى ما يمكن أن يسمى «أدب الافتقاد»

مفيد فوزى
مفيد فوزى

كتبت فى مذكراتها «اخترت الارتباط بأنجح شباب قبط مصر».. وأقول لها: «كنتى جدعة فى عمرى.. ونور فى حياتى». أحفظ ذكراك فى سريرة نفسى، فى أنقى حيز فى كيانى، لا تطاله يد بشرية، وحين تحين ذكراك فى الحادى عشر من مارس أستشعر الافتقاد الكبير، وأدق على صندوق افتراضى يضم حفنة من أيامنا معًا منذ رأيتك لأول مرة فى الأقصر تمثلين الربيع فى ازدهاره، حتى آخر لحظة على «جهاز تنفس صناعى» لا يسمع توسلاتى الدامعة ألا يكف القلب عن الخفقان وأن يظل الشهيق والزفير معلنًا الحياة، الحياة التى انطفأت قرب الفجر وكان ذلك إيذانًا بسفر طويل بلا عودة، وعشت أحمل كراهية شديدة لجهاز التنفس الصناعى وأشعر- عفوًا- أنه «يتحدى» إرادة الله.
إنه السؤال الأوحد بلا إجابة: أين ذهبتِ؟ أين اختفيتِ؟ لماذا هجرت صحبتنا؟ لماذا رحلتِ مبكرة؟ ولم أكن أفهم معنى هذا الدعاء قبل رحيلك. حين كنت أسمع من يقول لى: «حسك فى الدنيا».

تلك واحدة من الرسائل التى اعتاد الكاتب الكبير مفيد فوزى إيداعها فى «بريد المحبة»، كل عام، لزوجته الراحلة الإذاعية آمال العمدة، يحاول من خلالها تجديد «عهد الشوق» مع السيدة التى جمعته بها قصة حب وزواج امتد لما يقارب نصف قرن من عمر الزمن.
يكتب «مفيد» كثيرًا عن «آمال»، لكنه دائمًا يعطى إحساسًا للجميع بأنه لم يقل إلا القليل جدًا عنها، فما تفسير صاحب «حديث المدينة» لهذا اللغز المتجلى فى كتاباته عن المرأة، التى يصفها دائمًا بأنها كانت ولا تزال «عمدة القلب»؟
يُجيب «مفيد»: آمال العمدة أسرت قلبى منذ اللحظة الأولى التى وقعت عينى عليها، وكان ذلك فى مدينة الأقصر، حينها اعتقدت أننى فى حضرة فتاة إيطالية الأصل والمنشأ، عزز هذا الشعور عندى طولها اللافت وسُمرتها الجاذبة، فبدأت فى تقصى حقيقتها فعرفت أنها فتاة أقصرية تعمل مرشدة سياحية، ووجدتها تتمتع بقدر كبير من العلم والمعرفة بحكم انفتاحها على القراءة بصورة كبيرة.
تجربتى الأولى فى التعامل معها بدأت فى أعقاب نشرى سلسلة تحقيقات من ١٤ حلقة بعنوان «سافرنا ألمانيا» على صفحات مجلة «صباح الخير»، إبان رئاسة الراحل الكبير أحمد بهاء الدين تحريرها، حيث قمت بتقديم صورة فيلمية لكن بالكلمات لكل تفاصيل تلك الرحلة، التى حاولت من خلالها كشف الوجه الآخر للمجتمع الألمانى من الداخل.
بعد انتهائى من تلك الحلقات تلقيت بالبريد طردًا، عندما فتحته وجدت أمامى كشكولًا يحتوى على ١٧٨ ورقة مكتوبة بقلم آمال توفيق الشهيرة بآمال العمدة، وهى عبارة عن رسائل توجه لى من خلالها انتقادات حول بعض ما كتبته بخصوص زيارتى لألمانيا، قرأتها جميعًا وحين انتهيت منها أذهلنى التفكير، وشعرت بأننى أمام كاتبة تنتمى لعالم ألف ليلة وليلة الخيالى، وقتها دخلت رأسى واستقرت فى نفسى تمامًا، فوجهت لها دعوة على العشاء لتبادل الآراء حول هذا الخطاب الغريب الشبيه بأروع اللوحات الفنية، والذى لم أتلق مثله فى حياتى.
بعد اللقاء بشهور قليلة تزوجنا، وفى أول محطة إنجاب رزقنا الله بحنان مفيد فوزى، وبعد ارتباطى بها بشهور قليلة اكتشفت شيئًا فى النساء نادرًا، وجدته حاضرًا فيها بقوة وشدة، ألا وهو «الجدعنة»، فقد كانت معاونة لى ومثابرة معى فى بدايتى الأولى، وقت لم أكن أملك فيه الشقة ولا أمتلك السيارة، فكل دخلى كان يقتصر على ٢١ جنيهًا و١٢ قرشًا، وهو مبلغ يمثل جملة راتبى الذى أتقاضاه من مؤسسة «روزاليوسف»، وإن كان يمثل مبلغًا معتبرًا ومحترمًا بمقاييس هذا الزمان.
فى تلك الآونة كانت فرصة السفر إلى كندا أمامها سانحة بعدما هاجر معظم أفراد عائلتها إلى هناك، وأيضًا بإمكانها أن تتزوج من أصحاب الملايين، لكنها، حسبما رَوَتْ فى مذكراتها، قالت اخترت الارتباط بأنجح شباب قبط مصر، فدعمتنى وعاونتنى على خير ما يكون الدعم والعون، وتقاسمت معى الحلوة والمرة.
بعد كل تلك السنوات من الفراق أقول لها فى عالمها الآخر: «كنتى جدعة فى عمرى.. نور فى حياتى.. تعلمت بعد رحيلكِ ما يمكن أن يسمى أدب الافتقاد.. وسأبقى على عهدى بالكتابة إليكِ فى ذكراكِ والحديث عنكِ فى كل أوقاتى».