رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأبنودى ونهال.. حب فى العاصفة

عبدالرحمن الأبنودى
عبدالرحمن الأبنودى


كان زواج عبدالرحمن الأبنودى وإنجابه فى سن الخمسين هو «تحدٍ للحياة». كان «الأبنودى» يعتبر ابنتيه وأمهما السيدة نهال كمال أقمارًا تدور فى فلك حياته وتضيئها حبًا وأملًا وتضيف إلى عمره أعمارًا جديدة، فكن يملأن حياته دفئًا وجمالًا، أو كما كتب يهديهن مختاراته من الشعر: «إلى نهال كمال.. زهرة النور، وإلى آية ونور.. عطر الحياة»، أو كما وصفهن فى إهدائه لنثرياته «آخر الليل» بأنهن «منابع الود والصفاء». أتذكر أن جمال الغيطانى حين أسس جريدة «أخبار الأدب» أراد أن يرصعها بحوار مع الأبنودى، واقترح عليه أن يرسل إليه صحفية جميلة، فقال له الأبنودى- حسبما روى لى- إنه لا يحتاج لجميلة، لأن لديه ثلاث جميلات «نهال وآية ونور»، وطلب الأبنودى من الغيطانى أن يجرى الحوار معه إبراهيم عبدالعزيز، لأنه يرتاح إليه، كما قال لى.

وقد ظلت ابنتا الأبنودى هما شاغليه، ولم يكن يستطيع أن يكتم هواجس العمر، فكان يصرح بها فى أحاديثه الصحفية قائلًا: «الموت طبيعى، أنا فى سنى ده يعنى رؤيتى للحياة كلها تبقى اتملكت فى إيدى، وبعدما أنجبت الطفلتين الصغيرتين آية ونور، بقى إحساسى بالموت قوى، لأن عمرى ما كنت أعرف الحياة من الموت، بكرة من إمبارح، وكنت عايش، ومن يوم ما جبت آية ونور بقيت لما أبص ليهم أبص للمسافة بينى وبينهم، والإنسان ينجب عشان يخللى أولاده صورة منه، لكن لما يبقى ماعندكش وقت تخليهم صورة منك وسايبهم للدنيا، كأنه خطأ، والإنسان بعد الأربعين يقولك صباح الخير يا محمد.. عمك مات.. تقول له إزيك يا على، يقول كده.. أنا مش على.. أنا أخوه الصغير.. على مات».
بدأ الأبنودى حياته البكر الجديدة وهو فى الخمسين من عمره بعد انفصاله عن زوجته الأولى، وهى تجربة لا ينكرها أو يتهمها، ولكنها جمدته وهو الثائر المتمرد والشاعر الحر الطليق، أو كما يقول: «أنا لم أُدن علاقتى السابقة، ولم أقل إنها علاقة سيئة أو فاسدة، ولكننى شعرت بالاختناق، هذه مسألة خاصة بتكوينى الذاتى، وطريقتى فى العمل، وطبيعتى، وارتطامها بما نبت فى طبيعة الآخر».
ويتحدث الأبنودى مع ذاته: «أقول لنفسى بل بصوت تسمعه منى هى-ابنته- أحيانًا، كيف ستعيشين طفلة يكبرها أبوها بأكثر من نصف قرن فى عالم جهنمى كالعالم الآتى الذى نصنعه من أجلها بإتقان الآن فى هذه اللحظة، وليس حولها من حماية أو حراسة كبير أو صغير.. أهلى أو حكومى.. وليس فى حوزتها ميراث تشترى به أمنًا أو جمالًا، كما يفهم المصريون الجمال الذى يشترون به الكنف والحضن والزوج العصرى».
لقد أصبحت نهال زوجته، وابنتاه آية ونور، هن سيرته الذاتية الجديدة والوحيدة.
يقول الأبنودى:
هناك أشياء سرية، بعضها يتعلق بالتوافقات النفسية والفكرية والعاطفية.
استشعرت رتابة وتقليدية الأمر، بينما ما زلت أحمل الروح الثائرة، المتوثبة للاستمرار، ولشق قنوات أخرى، ولتجديد الفكر والحركة وطريقة السلوك.
آلاف الأشياء التى لو ذكرتها، فسوف أُلام أيضًا لومًا شديدًا وأعاقب من هؤلاء الذين يرغبون فى أن يعيشوا لى حياتى.
والقضية هى قضية اثنين يحققان شيئًا يريان أنه شىء نبيل أو غير نبيل، شىء فى مصلحتهما، سواء مصلحتهما نبيلة أو غير نبيلة، وفى لحظة يخرج أحد طرفى العلاقة خارج دائرة مصالح الآخر، أو خارج دائرة الهدف الذى تتعلق به حياة الآخر، والذى إذا لم يتحقق فإنه يموت.
وقد وجدتنى فى لحظة أقول:
«ننام من غير ونس
ننام زى الجثث
كأننا بيتين
كأننا موتين
وإنتى اللى كنتى الابتسام
وأنا اللى كنت العين
دلوقت بيضايقك دراعى
إن لمس
دراعك الممدود
ويخنقنى أنا همس النفس
إيه اللى كان وانطفا؟
إيه اللى كان وانطلق؟
إيه اللى كان وانحبس؟
جسى شفايفى بصوابعك
وحسى طعم العبث!!
شبابيكنا من غير هوا
شبابيكنا من غير ضو
البحر مرصوف بلاط
والأوضة وسع النو
أنا وإنتى نجم فى تراب
أنا وإنتى ضل الجو».
من حق الناس أن تنفصل بالحلال، فلماذا يسمح بهذا فى الصداقات ولا يسمح به فى الزواج؟ وفى اعتقادى أن الصداقة شىء نبيل جدًا، لا تقل نبلًا عن الزواج إن لم تكن تفوقه، لأنها غير مشروطة، وبغير مصالح، وبغير دوافع، وعندما تفتح دواوين شعرى كلها تجدها تتكلم عن الأصحاب، والرفاق، فالأم والصداقة عندى من أعلى القيم الموجودة فى شعرى، فلماذا لا يحزن المجتمع إذا انفصل صديقان؟
ولم يكن الأبنودى بعد نهاية تجربته الأولى يعترف بمسألة السن هذه، حسب تعبيره: «صحيح أننى انفصلت فى سن الخمسين، ولكن مشكلتى، أن قضية السن غير مطروحة عندى بالمعنى التقليدى، فأنا- بالفعل - لا أملك هذا الوقار المزيف لمن هم فى الخمسين، ولا أملك رتابتهم، وقصائدى الآن أكثر شبابًا من قصائدى الأولى».
لم يشعر الأبنودى–إذن- بمسألة السن عندما تزوج نهال، رغم أن المجتمع- كما يقول- بدأ «يناقش التناقض بينى وبين زوجتى، أنا كبير فى السن وهى صغيرة، أنا صعيدى خشن وهى جميلة، أنا فقير وهى من طبقة مستريحة».
ولكن الأبنودى، رغم هذه الفروق، قرر- برضا الطرف الآخر- أن يتزوج، «ليس كما رأى من تورطوا فى الخوض فى سيرتى وتصويرى بمظهر الدنىء الذى طمع فى الفتاة الصغيرة الجميلة دون مراعاة لكبره فى السن».
إنه يتذكر: «فى البداية كانت- نهال- دائمًا تترك لى رسائل موقعة باسم بنتك نهال! ولذلك لم أتخيل أن أتزوجها، ولكن حدث ما لم أتوقعه، أمى فاطمة جنديل كانت فى مرة بتزورنى فى القاهرة ورأت نهال وهى التى اختارتها لى، وصممت أن أتزوجها دون غيرها»، فوافق ذلك هوى لدى الأبنودى لأنه صادف «الإنسانة التى تستحق أن أبدأ معها من جديد»، و«لأن هذه العلاقة كفيلة بأن تجعلنى أُبدع وأُمارس حيويتى».
وجاءت ليلة زواج الأبنودى من نهال فى يناير ١٩٨٦ لتكون ليلة فاصلة فى حياته، يؤرخ لها الشاعر بفترة قبل زواجه من نهال كمال، وبعد زواجه منها.. يتذكر: عشت على قدر ما عشت فى القاهرة لم أصادف ليلة كهذه، فحين عقدنا القران وتزوجت بنهال كمال، انقلبت الطبيعة رأسًا على عقب فى حالة من إعلان الغضب لم أر له مثيلًا من قبل، إذ هطلت الأمطار وبرق البرق، وكانت ليلة لا يرى فيها أحد أحدًا فى الشارع، وجاء أهل العروس من الإسكندرية ومن طنطا تحت هذا الجو العاصف غارقين فى مياه المطر وأحذيتهم غارقة فى الوحل لتتم الاحتفالية البسيطة، وحين أردنا النزول كان المطر والرعد لم تهمد حالتهما بعد وكانت هناك حفر بجوار نادى الصيد انزلقت إليها السيارات، ونزلنا بملابس الزفاف نشمر البنطلونات ونخرج السيارات، نظرت إليها وقلت: «شفت الطبيعة غضبانة على الجوازة إزاى مش الأصدقاء بس والرغى اللى حوالينا وإنما الطبيعة سخطت سخطًا مهولًا»، ولقد ظللنا أكثر من ساعة ونصف الساعة نحاول إنقاذ السيارات، وكان أهل «نهال» متعجبين كيف سيصلون إلى بيوتهم، ولكن نهال كانت تبتسم وتقول: ما دامت الأمور بدأت بهذه الطريقة فسوف نعيش حياة رائعة.. وقد كان- صدق ما قالته نهال.
وقد جعله الزواج من نهال يشعر بالفرق بين الزيجتين، كما عبر عنه: «أستطيع أن أقول إن زيجتى الأولى كانت زيجة الحياة العملية، أما الأخيرة فهى إطار للسكينة والإيمان بقيمة الشاعر- وليس الرجل- وهى الهرب من التسلط.. ونوع من نفض الأغلال باعتبار أن ذلك واجب شرعى».
وقد أثبتت نهال أنها ليست مجرد إنسانة بسيطة وجميلة، وإنما هى «حياة كاملة مكتملة».
أما مسألة السن، فلم تكن الزوجة تشعر بها، كما يصف الأبنودى: «المشكلة أن نهال لا ترانى كبيرًا فى السن، وإنما تعتقد أننى أكثر شبابًا منها، وأننى عجوز فقط فى عيون الآخرين».
ولم يبدأ الأبنودى الشعور بمسألة السن هذه إلا بعد أن أنجب ابنته الأولى «آية» ثم «نور».