رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سر الأشاعرة «الأخيرة»

خطة الرسول لتجديد الخطاب الدينى

جريدة الدستور

مشكلة تجديد الخطاب الدينى يمكن تلخيصها فى سؤال: هل يجدد الأشاعرة «التيار الفكرى الرسمى للأزهر»؟ وإذا كان السؤال واضحًا فإن الإجابة عنه ليست بالوضوح ذاته، على الأقل حتى الآن، فمن الواضح أن الذين ننتظر منهم التجديد لا يعرفون ما الذى نعنيه بالتجديد، أو ربما لا يعرفون ما الذى تحتاجه مجتمعاتنا من أجل التجديد، كما أنهم قد لا يكونون مدركين السبب الذى يجعل المجتمعات الإسلامية بحاجة إلى هذا التجديد.
يقول البعض إن علينا أن ننتظر التجديد من هؤلاء، لكن آخرين يرون أن الكلام عن التجديد سيستمر «مجرد كلام»، وسلسلة تساؤلات لا تنتهى، ومعها اجتماعات ومؤتمرات وإعلانات لكنها فى النهاية ستسفر عن لا شىء. وكان آخر هذه المؤتمرات «مؤتمر الأزهر العالمى للتجديد فى الفكر الإسلامى»، الذى شهد مناوشات بين الدكتور محمد عثمان الخشت، رئيس جامعة القاهرة، والإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، الذى قال إن «الخشت» أتى على الأشاعرة بما ليس فيهم بخصوص المناهج العلمية المتّبعة فى دراسة علم الحديث والفتاوى المستندة إليه. هل كان ما قاله الدكتور الخشت دقيقًا؟ وهل كان الإمام صادقًا فى نفيه اعتماد الأشاعرة على أحاديث الآحاد؟.. تعالوا معًا لنعرف.


التفكير التراثى أدخل على الدين ما لم يقصده الله تعالى ولا أراده ولا شرَّعه.. وأسهم فى «تضييق العقول»


فى عصور الإسلام الأولى كان للنبى «ص» وحده حق الاجتهاد فى تفسير النص، وكان له حقه وحده أيضًا فى تبيين علل- أسباب- أحكام آيات الله الكريم.
بعد وفاة النبى «ص» استخدم الصحابة هذا الحق، فتعاملوا مع روح النص لا مع حرفه، لكن جاء بعد عصور الصحابة والتابعين من لم يفهم جيدًا ولم يصل إلى ما وصل إليه الصحابة من أسس.
قال عمر بن الخطاب لابن عباس ذات مرة: على ماذا يختلف القوم بعدنا؟ أجاب ابن عباس: سيأتى بعدنا قوم يقرأون القرآن ولا يعرفون فيما نزل فيؤولونه، فيختلفون فيما أوّلوا فيقتتلون فيما اختلفوا فيه.
وهكذا أدخل التفكير التراثى بقيوده على الدين ما لم يقصده الله تعالى ولا أراده ولا شرعه، والذى حدث أن المسلمين بمرور الزمن- ونتيجة فكر تراثى حاد- فهموا السنة بطريقة حوّلت اجتهادات النبى واجتهادات الصحابة من مجرد رأى وفق الزمن وظروف عصورهم إلى مسلمات دينية.
من المسلمات التراثية كانت الثقة فى كل المنقول إلينا على ظهر التراث من سنن، ومن أحاديث وسلوكيات ووقائع وإرشادات نسبت إلى النبى «ص».
بمرور الزمن أيضًا تحولت الثقة فى كل «المنقول» إلى معلومات من الدين بالضرورة، سلب هذا المعلوم من عموم المسلمين «حتى الباحثين»، أى قدرة على إعادة الفحص أو أى قدرة على إمكانية النقض.
أدى التسليم بكل المنقول من سنن إلى دخول أحاديث ضعيفة ومشكوك فيها إلى التراث الإسلامى تناقلتها الأجيال المتعاقبة بلا أى قدرة- مرة أخرى على الفحص ولا أى إمكانية على إعادة التيقن- حتى لو استوجب الفحص بعض الأمور وبعض الوقائع، وحتى لو تطلبت الظروف إعادة التيقن.
ركبت على ظهر التراث وانتشرت أحاديث مشكوك فيها وموضوعة، كانت سببًا فى تعزيز الفجوة بين المسلمين وغير المسلمين على مر الزمن، وركوبًا على ظهر التراث- مرة أخرى- أسهمت سنن منسوبة للنبى فى تأسيس ما يشبه العنصرية العربية بين العرب وغير العرب، ناهيك عما أضافته مدارس الفقه «الأضيق» من مزيد من المغالاة فى الحلال والحرام، أو ناهيك عما أضافته مدارس أخرى من غلو فى الاستئثار بالحقائق المطلقة واحتكارها.
ظهرت أحاديث نبوية عن فضل «وقوع الذباب فى إناء المسلم»، وارتبط «بول الإبل» بما أطلق عليه العوام «الطب النبوى».
ولما تحول التراث إلى مرادف للدين ومرادف للعقيدة، لم يكن غريبًا أن يصل اعتقاد البعض فى كتاب الإمام البخارى إلى ما لا يمكن حسبانه على منطق ولا دين.


«البخارى» أصبح بلا سبب مرادفًا للدين وموازيًا لأصول الاعتقاد الإسلامى الصحيح


يبين التاريخ الإسلامى تفاصيل كثيرة بدا منها أن ثقة المسلمين فى كتاب صحيح البخارى قد وصلت لأعلى درجاتها، بل وصل الأمر إلى أن حل البخارى محل أقدس الإيمان وأصبح صحيح البخارى بلا سبب مرادفًا للدين وموازيًا لأصول الاعتقاد الإسلامى الصحيح عند كثيرين وعند أغلب الأشاعرة.
التسليم بكل ما نسب للنبى «ص» على إطلاقه- وبلا فحص ولا نقض ولا قدرة على ذلك- كان أول الأسباب التى أدت لدخول الأشاعرة معارك عاصفة وصلت لتبارز فقهى مع مدرسة الرأى فى العراق، ومع دعاة التجديد فى كل العصور الإسلامية.
فى كتابه «تاريخ التشريع الإسلامى» قال الحضرى بك: «كان كبار الصحابة يستندون فى فتاواهم أولًا إلى كتاب الله، ثم إلى السنة، وإن لم يجدوا أفتوا بالرأى»، والرأى هنا يعنى الاجتهاد.
ويكمل: «لكن لما جاء الخلف- يقصد عصر ما بعد التابعين وتابعى التابعين- كان منهم من يقف عند فتوى الصحابة وعند الحديث النبوى ولا يتعداه، فيُفتى فى كل مسألة بما يجده فى الحديث أو آراء الصحابة وإن لم يجد سكت».
ففى المدينة المنورة أصرت مدرسة الحديث على التوقف عند ظواهر النصوص، وغضت الطرف عن البحث فى أسباب الأحكام والعلل، أو الأسباب التى كانت وراء اجتهادات الصحابة فى المسائل الشرعية وفى المشكلات التى تواجه المسلمين فى عصورهم.
لذلك تجمد مجتمع المدينة بعد عصور الصحابة، بعدما أصر فقهاؤها على تقليد الأوائل، فكانوا كلما صادفتهم حاجة إلى حكم شرعى، بحثوا فى القديم، فإن لم يجدوا «سكتوا» ولم يصدروا حكمًا!
فى العراق اختلف الأمر وكان فقه العراق أكثر حرية فى التعامل مع النص بالتأويل وإعادة التفسير وبمعرفة أسباب النزول ومناسبات الأحكام، ثم بالحرية فى إعادة فحص السنة وإعادة التثبت من أقوال النبى وظروف أقواله ومناسبات أحاديثه «ص» للقياس عليها.
تعاملت مدرسة الرأى- تعرف أيضًا بمدرسة الاجتهاد فى العراق- مع المنقول ومع أقوال الصحابة والتابعين وفق الواقع ووفق المصلحة، فإن بدا لهم اختلاف فى الظرف واختلاف فى الوقائع، عدلوا عن أحكام الأوائل وأخرجوا أحكامًا جديدة، وخرج الإمام أبوحنيفة النعمان فى العراق مصرًا على وجوب الأخذ بالرأى وعقلنة أحكام الشريعة بحيث تتناسب الأحكام مع الواقع والظروف.
فقه المدينة كان سلفيًا لم يختلف عن الفقه الأشعرى كثيرًا، الاثنان توقفا عند ظواهر النص وسوابق أحكامه، والاثنان كلما أرادا حكمًا جديدًا بحثا فى فتاوى الأوائل، لم يحدث أن بحثا فى أسباب الأحكام القديمة ولا فضلا أن يقتربا من الرأى وإعمال العقل إلا قليلًا.
لكن فقه الرأى فى العراق كان «مجددًا»، لذلك لم يتحرج فى البحث فى أسباب أحكام الأوائل والأخذ بأسباب الأحكام لا بظاهرها. فقد ربط فقهاء العراق المسائل الشرعية ببعضها، وأخذوا بالأصلح أو الأكثر يقينًا من الحديث، وأباح فقهاء الرأى فى العراق الاختلاف بين ما يرون من أحكام وبين كثير مما رآه الصحابة.



الأشاعرة قدسوا متون الأحاديث حتى لو خالفت المنطق


فى تأويل مختلف الحديث، وفى مقدمة ابن الصلاح وفى تدريب الراوى، رُوِى عن أبى هريرة أنه قال: قال رسول الله «ص»: «من حمل جنازة فليتوضأ»، لم يأخذ بهذا الحديث ابن عباس وقال: «لا يلزمنا حمل عيدان يابسة على الوضوء».
وروى أبوهريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إن استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يضعها فى إناء، فإن أحدكم لا يدرى أين باتت يده»، لم تأخذ بالحديث السيدة عائشة، قالت إنها لم تسمع به ولا تعرف من أين جاء.
الاختلاف فى الروايتين يضعف- لدى بعض الباحثين- فيهما اليقين بورودهما عن النبى «ص»، لذلك يجوز للمسلم أن يحمل جنازة ولا يتوضأ أو أن يقوم من نومه فلا يغسل يده.
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وقع الذباب فى إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه، فإن فى أحد جناحيه شفاء وفى الآخر داءً»، «صحيح البخارى».
ويعتد الأشاعرة حتى اليوم بالحديث وصحته وصدوره عن النبى، لوروده فى البخارى، ويرون أن المسلمين ملزَمون بتصديقه حتى ولو فى عصور ثبت فيها أن الذباب يحمل قذارة وميكروبات وأوبئة وأشياء أخرى.
وفى البخارى أيضًا ورد حديث «غروب الشمس» الذى ينسب إلى النبى «ص» قوله: «إن الشمس بعد غروبها، تقع تحت عرش الرحمن، حتى يؤذن لها فتشرق من جديد».
الحديث صحيح أيضًا فى رأى أغلب الأشاعرة لوروده فى صحيح البخارى، رغم أننا فى زماننا عرفنا أن الشمس لا تذهب تحت عرش الرحمن، إنما إلى نصف الكرة الآخر فيكون فى نصف كوكب الأرض ليل، وفى النصف الآخر نهار، عكس ما كانوا يعتقدون زمن المسلمين الأوائل.
الذى حدث أن اكتفت مدارس الحديث فى المدينة- وفقهاء الأشاعرة من بعدهم- بفحص السند، بينما تركت متون الأحاديث حتى لو خالفت المنطق، وحتى لو خالفت أحيانًا الآداب العربية والنخوة كحديث إرضاع الكبير فى صحيح البخارى.
بداية من عصر المتوكل، نجح الأشاعرة فى تأسيس ما عُرف فى التاريخ الإسلامى بـ«المنهج النقلى»، والمنهج النقلى هو الذى اعتبر «النصالنقل» هما وحدهما صحيح الدين، لذلك استبعد المنهج النقلى باقى أدوات الاجتهاد العقلية الإنسانية وآليات تأويل النص أو مقاييس التيقن من صحة النقل، وعلى رأس النقل كانت السنة النبوية.
بداية من العصر العباسى الثانى احتكر الأشاعرة مصطلح «السُنة والجماعة» فى الشارع الإسلامى، وكان أن صدَّروا مفهوم «السُنة والجماعة» باعتباره معنى دينيًا شرعيًّا منصوصًا عليه، مع أنه ليس هناك أصل دينى ولا مصدر قرآنى يدعم الأشاعرة أو يقصر عليهم مصطلح «أهل السنة» أو مفهوم «الجماعة».
لكن الأشاعرة استطاعوا، بدعم الخلفاء المسلمين بعد المتوكل، فرض المصطلح ورسخوه فى الشارع المسلم بعدما قدموه فى علبة فاخرة من قطيفة كتبوا عليها: «بسم الله».



الرسول رفض كتابة سنته كى لا توازى كتاب الله فى القداسة لدى عامة المسلمين


شهر عن النبى «ص» ما اقترب من خمسمائة وستة وتسعين ألف حديث، الإمام البخارى نفسه حين بدأ العمل فى كتابه شك فى كل السنة وفى كل الأحاديث المنسوبة للنبى، ثم أعاد غربلتها وأعاد تصنيفها، وأخرج فى صحيحه ما لا يزيد على سبعة آلاف حديث.
بعد البخارى جاء تليمذه الإمام مسلم، فشك فيما زاد على ألفى حديث مما أخرجها أستاذه البخارى فى صحيحه، أعاد مسلم هو الآخر الغربلة وأخرج فى «صحيح مسلم» ما زاد على أربعة آلاف حديث!
كيف يمكن والأمر هكذا اعتبار كتاب البخارى الأصح بعد كتاب الله؟!
ثم إن الإمام مسلم نفسه خرج على رجال البخارى وضعف بعضهم، ولم يأخذ بكثير مما رووه من حديث، والإمام البخارى هو الآخر لم يطمئن إلا إلى آلاف قليلة من أكثر من نصف مليون حديث شهير عن النبى «ص».
ثم إن الإمام البخارى نفسه قد بدأ رحلته اجتهادًا فى جمع أحاديث النبى «ص»، مخالفًا أوامر النبى «ص»، لأن الثابت أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن كتابة أحاديثه وجمعها. روى الإمام أحمد فى مسنده «وفى تذكرة الحفاظ للذهبى» أن النبى «ص» نهى عن كتابة أحاديثه كى لا توازى كتاب الله فى القداسة لدى عامة المسلمين، خاف النبى «ص» أن يفتتن المسلمون بالحديث وبالسيرة، فيبتعدوا عن لب الدين وأصل كتاب الله.
ولد الإمام البخارى فى عام ١٩٤هـ، وولد الإمام مسلم بين ٢٠٤ و٢٠٦ هـ، بينما ولد الترمذى وأبوداود وابن ماجة والدارمى بعد عام ٢٠٩هـ، وكلهم من الجيل الأول لأرقى ما وصلنا من كتب الحديث، لكن لا أحد فيهم شاهد النبى ولا أحد منهم سمع منه، ولا حتى سمع مباشرة من الصحابة أو التابعين.
وفى علم «الحديث دراية»، لا يعتد بالرواية إلا ممن سمع مباشرة من النبى أو سمع ممن سمع مباشرة من النبى، لكن الإمام البخارى نقل بالسماع بعد جيلين من جيل النبى «ص»، يعنى لم يسمع مباشرة منه «ص»، ولا روى عمن سمع منه «ص» مباشرة هذا أولًا.
ثانيًا: جمع الإمام البخارى سُنة النبى «ص» أتى مخالفًا ورغبة النبى «ص» نفسها. فقد نهى النبى «ص» عن جمع سنته وكتابة أحاديثه.
لكن لماذا خاف النبى «ص» من أن يدون المسلمون أحاديثه؟
الإجابة بشكل مفصل أكثر: لأنه خاف «ص» أن يجمعوها ويحفظوها ثم يتداولوها، فتظهر مع الزمن كتب غير كتاب الله يقدسونها ويعظمونها عظمة القرآن. نهى النبى «ص» عن كتابة الحديث النبوى ثابت بالسنة، تكلم عنه أبوهريرة، وعبدالله بن عمر وزيد بن ثابت وعبدالله بن مسعود وأبوسعيد الخدرى. فى مسند الإمام أحمد روى أبوهريرة أن رسول الله «ص» خرج عليهم وهم يكتبون أحاديثه، فسألهم عن الذى يفعلون؟ قالوا إنهم يكتبون بعض حديثه، فانفعل «ص» وقال: أكتاب غير كتاب الله؟! قال أبوهريرة: فجمعنا ما كتبناه وأحرقناه بالنار.
لدى الإمام الذهبى، عن السيدة عائشة بنت أبى بكر قالت: جمع أبى الحديث عن رسول الله وكانت خمسمائة حديث، فبات يتقلب كثيرًا، فلما أصبح قال: أى بُنيَّة هلمى بالأحاديث التى عندك، فدعا بنار فأحرقها.
وروى عن أبى هريرة أن رسول الله قد بلغه أن أناسًا قد كتبوا أحاديثه، فصعد المنبر وقال: «ما هذه الكتب التى بلغنى أنكم قد كتبتم؟ إنما أنا بشر، فمن كان عنده شىء منها فليأتنى به، وأحرقها بالنار».
روى أبوهريرة أيضًا عن النبى «ص» قال: «لا تكتبوا عنى غير القرآن ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه»، وفى المسند عن أبى سعيد الخدرى قال: «استأذنت رسول الله (ص) أن أكتب حديثه فأبى أن يأذن لى».
وفى «الأحكام»: إن عمر بن الخطاب صعد المنبر فى المدينة، قال: «بلغنى أيها الناس أنه قد ظهرت بين أيديكم كتب- يقصد ما كتبوه من حديث النبى- فأحبها إلىّ أحسنها وأقومها، ثم قال: لا يبقى أحد عنده كتابًا منها إلا أتانى به فأرى رأيًا فيه».
ظن المسلمون أن عمر أراد الوقوف على أفضل ما كتبوه من حديث النبى، فأتوه بما كتبوا فجمعها وأحرقها ثم قال: «أهى أمنية كأمانى أهل الكتاب؟»، ثم كتب عمر إلى ولاته على المسلمين حول العالم: «من كان عنده من السنة شىء فليتلفها». الخوف من افتتان المسلمين بأحاديث النبى هو الذى جعل الإمام مالك- رحمه الله- يرفض أن يجيب طلب الخليفة العباسى أبوجعفر المنصور فى إجبار المسلمين على دراسة كتاب مالك «الموطأ».
قال مالك للمنصور إن أصحاب رسول الله «ص» قد تفرقوا فى الأمصار، وعند كل منهم علم وليس من الرأى أن يحُمل الناس على كتاب واحد مهما كان إلا كتاب الله.
السؤال المهم: إذا كان رسول الله نفسه «ص» فى زمانه قد رفض كتابة أحاديثه وإذا كان «ص» نفسه خاف افتتان المسلمين، وخاف تقديسهم كتابًا غير كتاب الله، وخاف تسليمهم بأحاديث غير صحيحة، فلماذا لا تُعتبر المطالبات بإعادة فحص ما نقل إلينا منسوبًا له «ص» بعد كل هذه السنوات مطالبات مشروعة؟!.


الإسلام يلزمنا بترك ما كان فى زمن النبى وأصبح لا يصح فى زماننا لكن رجال الأزهر والسلفيين يرفضون


أكثر معضلات المنقول عن النبى أو المنسوب له «ص» هو اهتمام المشايخ بسند الحديث كمعيار للحكم على صحته بصرف النظر عن المتن- فى أحيان كثيرة- وبغض النظر عن منطوقه وبصرف النظر عن مطابقته الواقع- فى أحوال أكثر- لذلك سيطرت سطوة المشهور أنه حديث نبوى، وتوغلت واستحكمت فى أحيان كثيرة وظروف مختلفة بلا سبب.
يُعرف الحديث الصحيح بأنه: «المنقول من العدل الضابط عن العدل الضابط بلا علة، ولا شذوذ». والمقصود أن الحديث الصحيح هو الذى رواه رجل ثقة ونقله عن رجل ثقة وثبت لقاؤهما وكلامهما مع بعضهما، وبشرط أن يصل سند الحديث من زمن الرواية إلى زمن النبى، وبشرط آخر ألا يَروِى حديثًا فى زمن ما بعد النبى رجل ثقة بينما لم يروِ الحديث ذاته من هو أفقه أو أتقى أو أكبر ممن روى وأولى منه بالرواية فى زمنه. لاحظ هنا اهتمام علم الحديث بالسند، وبأحوال الرجال الذين رووا الأحاديث أكثر من الاهتمام بمتن الحديث أو منطوقه أو ما يرد فيه، كان هذا السبب فى أن كثيرًا من الأحاديث فى البخارى ربما تكون صحيحة السند، لكنها غريبة المتن.. حديث إرضاع الكبير مثال.
سند الحديث هو الطريق المؤدى إلى المتن أو الرجال الذين انتقل على ألسنتهم منطوق الحديث ومتنه من زمن الرواية حتى يصل إلى زماننا، أما متن الحديث فهو منطوق الحديث ومضمونه.
اعتبر حديث «إرضاع الكبير» «الذى وصل إلينا فى زماننا وطالبنا المشايخ باعتباره صحيحًا لوروده فى البخارى»، أنه كان مثالًا على صراع واجب وضرورى ومنطقى ولا بد منه بين المطالبين بالتجديد ومن يمتنعون عنه.
رفع صحيح البخارى إلى مرتبة القداسة- فى رأى الأشاعرة- هو الذى جعل حديث «إرضاع الكبير» يحُدث صراعًا ودويًا، منطقى أن تزيد معه المطالبات بإعادة فحص التراث وإعادة فحص السنة، واعتبار أن إعادة الفحص ضرورة دينية قبل أن تكون واجبة حياتية.
كان حديث رضاع الكبير أيضًا مثالًا عصريًا على نزاع جوهرى بين المنقول والمعقول، المقصود بالمنقول- فى السنة- هو كل ما وصل إلينا من كلام منسوب للنبى، بينما المعقول فهو كل ما يعقله البشر وتعتاده المجتمعات الحديثة طبقًا للمصلحة وتبعًا لأعراف تلك المجتمعات فى عصورها ومتطلبات تلك العصور وثقافتها.
طيب.. افرض أن ما كان فى زمن النبى أصبح لا يصح فى زماننا، فهل يلزمنا الإسلام بترك ما يصح الآن لصالح ما كان فى الماضى، ولمجرد أنه كان صالحًا فى زمن النبى والصحابة؟
التجديد يقول إن: «المصلحة فيما يتماشى مع زماننا»، لكن الأشاعرة يصرون على أن التمسك بما كان فى زمن النبى مهما كان ومهما تغيرت الظروف ومهما ظهر من بدائل كان هو صحيح التمسك بالدين وكان هو كمال الإيمان!
طيب.. افرض مرة أخرى أنْ تعارض المنقول مع المعقول يعنى تعارض متن حديث وصل إلينا مع ما توصل إليه العلم الحديث أو العرف الاجتماعى، مع أنه كان متعارفًا عليه فى عصور الإسلام الأولى، فلمن ننتصر؟
التجديد يقول: «إن تقدم المجتمعات فى النظر للأمام» وإن التحديث فى الدين يعنى الفهم الجديد والتصورات المستحدثة والعادات الجديدة.
طيب.. ماذا يكون الحال لو أن بعض رجال الأزهر والسلفيين والمشايخ يرون أن كلامنا هذا هرطقة أملتْها علينا استنتاجات شيطانية؟