رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«متى المسكين المطارد».. سيرة حياة الراهب الثائر

متى المسكين المطارد
متى المسكين المطارد

يتتبع الكاتب روبير الفارس في كتابه "متى المسكين المطارد"، الصادر حديثا عن دار مصر العربية للنشر والتوزيع، سيرة حياة الأب "متى المسكين" باعث النهضة الرهبانية في مصر، الرجل الأكثر إثارة للجدل في تاريخ الكنيسة المصرية، والذي يعد تياره وتابعيه حتى اليوم من زمرة "المارقين" على ثوابت الكنيسة المصرية، ويعد مقتل الأب أبيفانيوس أحد أقرب تلامذة الأب متى المسكين في يوليو 2018 حدثا يستدعى العودة إلى تيار متى المسكين وأسباب الجدل الكنسي حوله.

يسرد روبير الفارس في كتابه التحولات التى مر بها الأب "متى المسكين" منذ بدايات ضجره من الإجابات المكررة وغير المشبعة على الأسئلة الدينية والوجودية، لشاب غرق في دراسة العلم مثلما غرق في دراسة اللاهوت، واحتار بين ثنائيتين، كانت كل واحدة منهن مقطوعة الصلة عن الأخرى، ووسط هذا التمزق بين الدنيوية والدين، قرر الشاب يوسف اسكندر "متى المسكين" ترك سبيل الصيدلي الناجح عمليًا، فهجر شقته وصيدليته وخزنته التى امتلأت بالأموال بدمنهور، ليقطع تذكرة نحو القاهرة، وبالتحديد نحو كنيسة مار مينا بمصر القديمة، ليخطو نحو بقعة أخرى، هي بداية تحولات لن تتماس مع مساره الفكري والديني التجديدي فقط، بل مع مسار الكنيسة المصرية والتأثير المتبادل الذى اتسم بالبلبلة التى وصلت أحيانا لحد القطيعة وحرق كتبه ومنعها.

يسرد روبير الفارس في كتابه، التجديد الذي بدأه متى المسكين، ليحسن من أحوال الرهبنة في مصر، على المستوى العملي قبل المستوى الفكري، فحياة الرهبنة كانت صعبة قبل أن يبدأ متى المسكين حياته في دير الأنبا صموئيل بالمنيا، حينما قرر تحسين الوضع الاقتصادي واليومي والصحي المتردي بسبب البيئة غير الصحية التي تُعرّض الرهبان للأمراض، وللدغات العقارب والثعابين، فقرر إحضار الأمصال من وزارة الصحة لحماية الرهبان، كما كان أول من فكر في تحويل الأديرة لمساحة منتجة اقتصاديًا، بعدما عانت لسنوات من عدم توفر الاحتياجات الأساسية من الطعام وغيره، بسبب اعتماد الأديرة على معونات من خارجه، "فقد أقام منشآت جديدة للخدمات العامة مثل المطبخ والفرن والمضيفة والمائدة، إضافة إلى معمل لتخليل الزيتون، وحظائر المواشي، ومشروع الدواجن واستزراع الأراضي الصحراوية المحيطة بالدير".

يسرد الكتاب الخطط الأخرى التى وضعها ونفذها متى المسكين لنهضة الأديرة والرهبنة على المستوى المادي، منها تنظيم الإدارة البطريركية بعمل سجلات للزواج والشهادات الرسمية، وضبط الخدمات الدينية التي يقدمها الكهنة للشعب المسيحي، والشروع في إحصاء عام لأقباط الإسكندرية هدفه تنظيم الافتقاد والخدمة للشعب، وتنظيم الإحسان بحيث لا يأخذ محتاج نصيبا مرتين أو أكثر، إضافة إلى تنمية موارد البطريركية.

وعلى المستوى الروحي فقد سرد روبير الفارس بشائر التجديد التى زارت متى المسكين في فترات رهبنته الأولى، فقد اعتقد أن الحياة الروحية داخل الأديرة آنذاك كانت "عبارة عن طاعة عمياء من الرهبان للرؤساء، ووصفها الأب متى بأنها "عبودية إنسانية جديدة للإنسان"، فالطاعة في الرهبنة واجبة، كما يرى الأب متى المسكين، ولكن للأب الروحي الممتلئ والمطيع لله، وليس للرؤساء من الرهبان التى كانت تقودهم ميولهم الشخصية غير الخاضعة لتعاليم الإنجيل في كثير من الأحيان.

ويصف الأب متى المسكين أحوال الرهبنة في ذلك الوقت" ولكن الرهبنة كانت عند الرهبان في منتصف القرن الماضي، سواء الصغار أو الكبار تسير مغمضة في العبودية الإنسانية الجديدة للإنسان بلا مقابل إلهي يعكس ما كان لها من ماض مشرق في مفهوم الحرية الروحية حتى صارت الرهبنة نوعا من الخضوع الخانع والتقيد بمفاهيم الرؤساء وطاعة ميولهم الشخصية غير الإنجيلية مستغلين المقولة المتوارثة "إن الرهبة طاعة" ولكن أصل الطاعة في الرهبنة أنها كانت للأب الروحي والمختبر المطيع لله".

تبني الأب متى المسكين عدة أفكار أثارت حنق البابا شنودة وعدد من الآباء أبرزهم الأنبا بيشوي، فقد تبنى فكرة "الوحدة المسيحية" وكيفية تحقيقها مؤكدًا "أننا لا نريد وحدة عاطفية تكون لمجد الإنسان وتعظيم الذات البشرية لتنحية المسيحيين عن حالة التفتت والانقسام التى سادت بينهم والوحدة ليس معناها التنازل عن العقيدة بل الوحدة الحقيقية التى ستكون بمثابة إلهاما للعالم".

وحدد متى المسكين مشوار هذه الوحدة المأمولة والتي ستتحقق في ثلاث خطوات أولها أن تتبادل الكنائس في وقت واحد رفع الحرمان، لأن الحرمان ضد مشيئة الروح القدس، و"حدثت عن جهل كل كنيسة بروح وضمير الكنيسة الأخرى"، والخطوة الثانية الاعتراف المتبادل بين الخلقيدونيين واللاخلقيدونيين، والخطوة الثالثة الدخول في حوار المضمون ورفع الغموض بالشرح، وليس بالحذف.

أبرز المسائل الشائكة التى تطرق لها الكتاب هو طريقة تعاطي متى المسكين مع مسألة الدين والسياسة " فعلاقة السياسة بالدين في نظر الأب متى المسكين، إشكالية فرضت نفسها منذ أن وجدت الأديان ووجدت السلطة، واعتبر أن تشجيع الرعية على الاستهتار بالسلطان الزمني بحجة أن الكرامة والخضوع لله فقط، أي للكنيسة، خطر بعيد المدى وفي رأي متى المسكين فإن هذا الانسحاب والاستهتار بالسلطان الزمني ينتج عنه عقدة الاضطهاد عند الأقليات، ويصف الأب متى المسكين هذه الروح بأنها غريبة عن المسيح، وناتجة عن جهل".

يسرد روبير الفارس في كتابه مسألة الحرب على "متى المسكين" التى دامت لأكثر من أربعين عامًا، رغم أن التجديد الذي سعى له كان يهدف في الأساس لخدمة الأديرة الرهبانية، إلا أنه "بهذا الفكر الروحاني العميق صمت الأب متى المسكين عن كل سهام الظلم التى وجهت له على مدى أربعين عاما، لذلك إذا سألت أي قبطي عن الأب متى المسكين، فسوف يمتعض، ولو لم يقل عنه كلمات مشينة من نوعية "مهرطق" فسوف يقول، إنه صاحب تعاليم منحرفة وإن سألته عن تفاصيل هذه الهرطقة والأفكار المنحرفة للأب متى، فسوف يصمت أو يقول إن البابا شنودة قال ذلك".

ما يكشفه الكتاب أن كتابات متى المسكين منعت في مصر "وحرقت عن طريق الأنبا بيشوي"، وحدث "أن أساقفة راحوا يجمعون كتب الأب متى من مكتبات الكنائس، ويقال أنهم اعدموها وعندما جاء البابا تواضروس سمح بوجود كتب الأب متى المسكين أول مرة في معرض الكتاب القبطي 2013، وهلل التنويريون، ولكن ضغط الأنبا بيشوي ملوحًا بكتاب البابا شنودة"بدع حديثة" فمنع البابا تواضروس كتب الأب متى مجددًا في دورة معرض الكتاب 2014 حتى اليوم".