رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زيارة جديدة لعالم الشيخ مصطفى إسماعيل

الشيخ مصطفى إسماعيل
الشيخ مصطفى إسماعيل

لم يكن يشبه أحدًا من القراء، لذلك تهافت عليه السميعة حتى وصل إلى الملك فاروق، ومنه إلى ملوك الدول العربية، ولم يكن غريبًا أن يُطلق عليه «قارئ الملوك والفقراء»، فصوته «سيمفونية عظيمة التفاصيل»، وكانت لديه حنجرة مرنة قادرة على الانتقال ما بين المقامات فى الآية الواحدة، حتى إنه أدهش المطربين أنفسهم، وتفوق على الموسيقار محمد عبدالوهاب، وقال عنه رياض السنباطى إنه لا أحد من المطربين، بدءًا من عبده الحامولى، يجاريه فى جمال صوته وقوته. إنه الشيخ مصطفى إسماعيل، الذى التقت «الدستور» نجله «عاطف»، وكان هذا الحوار، الذى فتح فيه خزائن حكايات واحد من أعظم المقرئين المصريين على مدار التاريخ.


محمد رفعت أثنى على صوته فى أول لقاء بينهما


ولد الشيخ مصطفى إسماعيل صبيحة يوم ١٧ يونيو ١٩٠٥، بقرية ميت غزال، مركز السنطة بمحافظة الغربية، لأسرة ميسورة الحال، والده هو محمد المرسى إسماعيل، ووالدته هى ستيتة حسنين إسماعيل، وكان الشيخ هو أول أبناء محمد المرسى، وبعده جاءت أخته زكية وعبدالسلام وأمينة ومحمد وفاطمة وست العيلة وسرية عبدالعزيز.
منذ نشأته، كان والد الشيخ حريصًا على إبعاده عن الفلاحة، وبعد عامين من التحاقه بالكُتّاب الذى كان يملكه الشيخ أبوالعينين، التحق بكُتّاب الشيخ عبدالله شحاتة، وكان قريبًا من منزل الأسرة، وفيه أتم حفظ القرآن، وراح يتلوه فى المناسبات المختلفة حتى أصبحت له شهرة لا بأس بها وهو فى سنوات عمره الأولى.
فى إحدى المرات سمعته جدته لوالده وهو يقرأ القرآن، فخرجت تطلق «زغرودة» كبيرة جاء على إثرها أبوه، فاستحلفته بالله أن يبذل كل ما فى وسعه ليتم لطفله دراسة علوم القرآن، وهنا استشار الأب صديقه الشيخ عبدالرحمن أبوالعينين، فقال له: «سمعت صوت ابنك وأرى مستقبله فى قراءة كتاب الله».
وبالفعل أرسله للشيخين محمد أبوحشيش وإدريس فاخر، وذات مرة أخطأ الطفل مصطفى إسماعيل، فهجم عليه الشيخ أبوحشيش وعضّه فى كتفه حتى سال الدم، فرجع إلى أمه يبكى، فوضعت له ترابًا على الجرح.
استقر مصطفى إسماعيل فى طنطا فى أوائل العشرينات من عمره، كان وقتها قد بدأ صيته فى الانتشار، وكان يُطلب للقراءة فى المآتم والأفراح فى ميت غزال وما يجاورها ووصل إلى طنطا، التى كانت فى ذلك الوقت مليئة بالقراء، مثل الشيخ عوض والشيخ شفيق شهبة والشيخ محمد السعودى.
ويروى عاطف إسماعيل أنه كان هناك رجل يدعى حسين القصبى من أعيان طنطا، وكان عضوًا بمجلس الشيوخ، واجتمع معه الشيخ وقرأ، فأحبه «القصبى» حبًّا كبيرًا، حتى إنه فى مرة جمع أكابر القراء وقال لمصطفى إسماعيل: اقرأ بينهم.
وسافر «القصبى» فى منتصف العشرينيات إلى تركيا وتوفى هناك، وأعيد جثمانه للإسكندرية فى الباخرة، ونقل من الإسكندرية لطنطا بقطار خاص، وكان مصطفى إسماعيل فى بيته وقت أن طرق الباب أحدهم، ففتح له الشيخ فدعاه الرجل للقراءة على «القصبى» مع الشيخ محمد رفعت ومشاهير القراء.
ولما انتهى الشيخ محمد رفعت من قراءته، صعد الشيخ مصطفى إسماعيل للقراءة، فنهره الشيخ حسن صبح، وقال: «انزل يا ولد.. هو شغل عيال؟»، فتقدم أحد أقارب «القصبى» وقال إن «مصطفى» مدعو للقراءة مثل الشيوخ جميعهم، فسكت حسن صبح على مضض، وقرأ مصطفى إسماعيل فى هذه الليلة حتى أبهر أكابر طنطا وصفوتها، وكانت البداية الحقيقية له كمقرئ، حتى إن الشيخ محمد رفعت أثنى عليه وقال له: «أنت فقط تحتاج إلى دراسة المقامات وستكون قارئًا يتحاكى بك الناس».

نتيجة بحث الصور عن الشيخ مصطفى إسماعيل

قرأ فى «الحسين» فخرج المصلون وراءه حتى العتبة


كان الشيخ قد بدأ يقرأ كثيرًا فى أنحاء الغربية، وكان هناك قادمون من القاهرة يستمعون له، من بينهم محمد العوايجى، الذى أعجب بصوت الشيخ وتعرف عليه وأصبحا صديقين، وبعد رجوع «العوايجى» للقاهرة ماتت أمه، فاتصل بالشيخ وطلب منه القراءة فى المأتم بالقاهرة، وكانت هذه أول دعوة يتلقاها الشيخ للقراءة فى العاصمة.
يقول: «كان لأبى ترزى اعتاد أن يفصل ملابسه عنده، وكان اسمه الأسطى فتوح، وكان الأخير شديد الإعجاب بصوت الشيخ، ونشأت بينهما صداقة، وكان يطلب منه أحيانًا أن يقرأ فى بيته، وهو الذى نصحه بالانضمام إلى رابطة تضامن القراء، وبالفعل ذهب أبى للرابطة، والتقى الشيخ محمد الصيفى بها، وطلب منه الصيفى أن يقرأ ما تيسر من القرآن، فقرأ أبى فأثنى عليه كثيرًا وطلب منه أن يقرأ القرآن فى الإذاعة لمدة نصف ساعة متساويًا مع بقية المقرئين، وعاد الشيخ فرحًا إلى بيتنا، وأخبرنا بما كان من أمر الإذاعة».
ويتابع: «عندما حان موعده مع الرابطة توجه إلى مسجد الحسين قبل صلاة العشاء، وبدأ الشيخ يقرأ فى الإذاعة، امتلأ المسجد بالمستمعين وفاض بهم، ولما فرغ من التلاوة ضج الناس بالتكبير والتهليل، ونزل الشيخ من الدكة، ولما أصبح فى الشارع وجد الكثير من الناس يتبعونه، ومشى فمشوا وراءه، فتعجب منهم وسأل بعضهم: ماذا تريدون؟، فقالوا: نريد أن نسمع قراءتك مرة أخرى الآن، وبينما الشيخ يتحدث معهم وصلوا إلى ميدان العتبة وظهر سرادق لمأتم، فدفعته الجماهير دفعًا للسرادق وأجلسوه على الدكة وطلبوا منه القراءة، وانضم أصحاب السرادق إليهم، وطاوعهم الشيخ وقرأ حتى مطلع الفجر».

نتيجة بحث الصور عن الشيخ مصطفى إسماعيل

هزم عبدالوهاب فى مسابقة «سورة الرعد»


عندما ماتت أم ملك العراق عام ١٩٤٧، رن هاتفنا وقتها فوجدته القصر الملكى بالعراق، ويريدون الشيخ مصطفى، وكان وقتها فى الإسكندرية، فأخبرونى أن الشيخ سيطير إلى بغداد رفقة الشيخ أحمد أبوالعينين، ولما تأخر أبى أخذوا بدلًا منه الشيخ الشعشاعى، وحكى لى الشيخ أبوالعينين أن الجميع هناك كان يسأل عن الشيخ «مصطفى»، فتضايق «الشعشاعى»، وأخبرهم أنه سيسافر، وجاء أبى بعدها بيومين، وأخبرته بما حدث وذهاب «الشعشاعى» بدلًا منه.
وفى بيروت، كان هناك ملياردير اسمه محمود، أقام حفلًا دعا إليه الموسيقار محمد عبدالوهاب وأبى، واقترح «عبدالوهاب» على الشيخ أن يقرأ كل منهما آية، على أن يحكم الناس من الأفضل، فقرأ أبى آية من سورة الرعد: «أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم»، فقام «عبدالوهاب» ليضرب فيه بكلتا يديه بعد أن هزمه.


السنباطى قال: «كل الذين فتحوا حناجرهم لم يكونوا مثله»


كان قد ضايقنى ما كتبه الناقد الفنى الراحل كمال النجمى بأنه ليس هناك أحد بعد الشيخ محمد رفعت، فجمعت له عدة تسجيلات وذهبت إليه بها، وكان معه أبوالفضل جادالله، وأخبرنى «جادالله» أن «النجمى» لم ينم ليلتها وأنه يريد مقابلة الشيخ، فأخبرت والدى وكان مترددًا فى لقائه، لكنى أقنعته وجاء «النجمى»، وقال لأبى: «سمعت مقام السيكا من أم كلثوم وعبدالوهاب وزكريا أحمد، لكنى لم أسمع السيكا التى تقرأ بها من قبل (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله)، هذا الجواب لم أسمعه من قبل»، فقلت له: «لا تحكم على الشيخ مصطفى من الإذاعة لأن الشيخ رفعت وإسماعيل كليهما بطل فى مضماره، تمامًا مثل بطلى المسافات القصيرة والطويلة، فلا بطل القصيرة يصلح للطويلة ولا العكس أيضًا، محمد رفعت مسافات قصيرة، لكن الطويلة للشيخ مصطفى إسماعيل، تركيبة صوت والدى لا تمنح نفس المدخل لصوت الشيخ محمد رفعت، فليس له نظير فى دخوله فى التلاوة».
بعد موت أبى أقمت سرادقًا فى ميدان التحرير، وكنت بجوار كمال النجمى، فأشار إلى رجل يرتدى عباءة وطاقية، فسألته: «من هذا؟»، فقال: «رياض السنباطى»، فعرفته بنفسى وشكرته على مواساته، فسألنى: «أنت ابن الشيخ؟»، فقلت: «نعم»، فأخذنى بالحضن، وجلست بجواره، فقال لى: «أنا لى وقت طويل لم أغادر مصر الجديدة، لكن اليوم ضرورى كان لا بد أن أكون موجودًا». وقال لى أيضًا: «كل الذين فتحوا حناجرهم منذ أيام عبده الحامولى إلى الآن لم يكونوا مثل مصطفى إسماعيل، لأنه قال كل ما قالوه وزاد عليهم»، فقلت له: «لو قلت هذا الكلام لأبى قبل موته لما مات، فضحك».

نتيجة بحث الصور عن الشيخ مصطفى إسماعيل

دُفن فى بيته بـ«ميت غزال» بأمر السادات


فى العام ١٩٧٤، اتصل بى السفير المصرى بألمانيا لكى نقابل الرئيس السادات مع الجالية المصرية، وكان معنا عثمان أحمد عثمان، ووزراء مرافقون، وكان يرتب كل شىء الدكتور محمد توفيق عويضة، وكان رئيس المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وقال لى: «الشهر المقبل سنراك فى لندن، وأخبرنى أن الملكة إليزابيث تعد لمهرجان إسلامى كبير، وأن شيخ الأزهر وأبى سيكونان معنا».
نسيت هذا الأمر تمامًا، حتى قرأت خبرًا فى «الأهرام» أن الشيخ عبدالحليم محمود غادر مطار القاهرة إلى لندن، وفلانًا وفلانًا، ولم أجد اسم أبى من ضمنهم، وبعدها بأسبوعين حضرت للقاهرة، وذهبت إلى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، والتقيت توفيق عويضة، وقال لى إن السبب فى عدم ذهاب والدك أن هناك مكالمة هاتفية جاءت من شيخ الأزهر، وقالت إن أباك لن يذهب إلى هذه الرحلة، وقلت لأبى هذا الأمر، وهاتف الدكتور عبدالرحمن بيصار، وكيل الأزهر وقتها، وحدثه عن رحلة لندن، واتضح أن شيخ الأزهر لم يكلم أحدًا، وأن الأمر كان لعبة كبيرة قام بها الشيخ الذى ساعده الشيخ مصطفى إسماعيل للوصول للإذاعة.
كان أبى يفتتح مسجد البحر مع «السادات» فى دمياط، وبعد افتتاح المسجد دعاه أحدهم على الغداء، وخرج أبى من عنده إلى الإسكندرية، وكلمونى فحجزت فى أول طائرة وجئت إلى القاهرة مباشرة، كان أبى حينها فى المستشفى، وعرفت أنه يعانى من انفجار فى المخ، وعلى ضوء كلام الدكتور جهزنا المدفن ببيته كما أمر.
والحكاية أن أبى كان قد أوصى سابقًا إخوته وأبناءه بأن يدفن فى بيته بميت غزال، وبعد وفاته رفض المحافظ أن يدفن أبى فى بيتنا، فما كان من عمى محمد إلا أن توجه لـ«السادات» مباشرة، وبالفعل قابل عمى رئيس الجمهورية، وطلب منه تنفيذ وصية أبى الراحل، بأن يدفن فى بيته، ووافق الرئيس وأمر المحافظ بتنفيذ الأمر.