رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ذكريات سعيد شيمى



يعرف المؤرخون جيدًا أن أمتع وأصدق الذكريات والمذكرات هى التى يكتبها مَن لم يتولَّ منصبًا سياسيًا، فعادةً ما تكون مذكرات الساسة محاولة لتبرير بعض ما ارتكبوه، أو تشويه الخصوم، أو تفخيم الذات وإعلاء شأن دورهم، وربما لم ينجُ من ذلك إلا سعد زغلول، لأنه كتب مذكراته لنفسه ولم تكن مخصصة للنشر.
من هنا، علينا أن نحتفى بذكريات المصور السينمائى الكبير «سعيد شيمى»، أحد أهم المصورين فى تاريخ السينما، ورفيق درب المخرج الكبير «محمد خان» أو «ميمى»، كما كان يناديه منذ طفولتهما.
سأقتصر فى هذه المقالة على معالجة ذكريات شيمى ليس كمصدر لتاريخ السينما المصرية وتطورها، وإنما كشهادة جيل على عصر بأكمله، وسجل للحياة اليومية وتاريخ الناس.
ولِد سعيد شيمى فى حى عابدين فى عام ١٩٤٣، وكان منزله فى مواجهة قصر عابدين، من هنا يتذكر سعيد شيمى حوادث العصر الملكى والجمهورى.. ويُعَرِّف شيمى ذاته بأنه ابن الجيل الذى شبّ على أن قضية فلسطين هى قضية العرب: «كانت حرب فلسطين عام ١٩٤٨ هى محور ذاكرتى الأولى، وكنت قد تجاوزت بقليل الخامسة من عمرى»، لذلك لم يكن غريبًا أن يهدى شيمى مذكراته إلى «الزعيم الخالد جمال عبدالناصر فى ذكراه المئوية ١٩١٨- ٢٠١٨»، ويذكر أنه «ناصرى الهوى فى رقى ومصلحة وطنى».
ولم يأتَ هذا الشعور الوطنى والقومى العربى من فراغ، إذ لعبت الأسرة دورًا فى صياغة هذا التكوين، ولِد سعيد شيمى من أب مصرى وأم سورية، فطبيعى أن تكون النزعة العروبية حاكمة لديه، بالإضافة إلى أنه ابن الجيل الذى تفتح ذهنه على مأساة فلسطين، وارتبطت مصائره بتطورات هذه القضية.
ويحكى شيمى عن جذور الوطنية المصرية فى أسرته: «ستى والدة أبى حميدة بنت المناضل فى الثورة العرابية على فهمى، الذى حُكِم عليه بالإعدام مع رفاقه العرابيين، ثم خُفِّف الحكم بالنفى إلى جزيرة سيلان».
أما جده من أبيه فهو الآخر كان نصيبه النفى خارج البلاد مع قيام الحرب العالمية الأولى، حيث كان الياور العسكرى للخديو عباس حلمى الثانى، وكان مناوئًا للاحتلال البريطانى.
كم هى زاخرة هذه الذكريات بصور الحياة اليومية لمصر أخرى لا تعرفها الأجيال الحالية، فإذا كان جيلى هو جيل التليفزيون، والجيل الحالى هو جيل الإنترنت، فإن جيل شيمى هو جيل الراديو.. يحكى شيمى عن أثر الراديو فى حياتهم اليومية:
«من أول الأشياء العالقة فى ذهنى وصول أبى إلى المنزل ظهرًا واستماعه إلى الراديو فى نشرة أخبار الساعة الثانية والنصف باهتمام.. كانت المقدمة الموسيقية التى تسبق الأخبار تعجبنى، عندما كبرت عرفت أنها مارش دخول الجيش المصرى المنتصر فى أوبرا عايدة للموسيقار الإيطالى فيردى».
ومن الصور الجميلة والمُعبّرة عن تطور وسائل الاتصالات وأثرها فى الأجيال، حكاية شيمى مع التليفون، ربما لا يفهم هذه القصة الجيل الحالى الذى أصبح فيه المحمول فى يد الجميع.. يروى شيمى قصة زواجه وسكنه فى حى الهرم بالقرب من أكاديمية الفنون حيث تعمل زوجته، وبالقرب من الاستديوهات حيث يعمل هو، ولكن فى ذلك الوقت، فى أواخر السبعينيات، كانت مسألة تركيب خط تليفون من المستحيلات، نظرًا لمشاكل البنية التحتية، يروى شيمى كيف كان «عم كامل عامل التليفون فى استديو الأهرام هو رسول شغلى ومن يطلبنى للعمل أو اللقاء، فكان يرسل لى فراشًا إلى المنزل وأحضر إلى الاستديو لأقوم بالاتصال بمَن طلبنى»!
إنها من أمتع الذكريات التى قرأتها وأصدقها، لأنها كُتِبَت بقلم فنان حاول أن يجسِّد صورة لملامح جيله بحلوها ومُرِّها، الآلام والأحلام.