رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأبوة الحقيقية


الأبوة شئ رائع من الصعب وصفه، لكن يمكن التحدث عنه بأمثلة حية. أما فاقد الأبوة فالكلام النظرى متضارب ولا يقود لأى شئ. أمامنا واقعة حدثت منذ نحو أسبوع بمحطة قطار الأسماعيلية. سواء كان هناك خطأ من الأب أو من الأبنة لكننا هنا نتحدث عن مشاعر الأبوة الصادقة. حدث أن الأبنة (فى الخامسة الأبتدائية وتبلغ من العمر11 عامًا) نزلت من الرصيف لتعبر خط السكة الحديد، فى تلك الأثناء تحرك قطار بضاعة كان واقفًا. ماذا فعل الأب؟ ولأنه أب فقد ألقى بنفسه على أبنته ليعبر فوقهما القطار!! كانت لحظات ذهول المسافرين المتواجدين على رصيف المحطة. بعد أن غادر القطار المحطة خرج الأب والأبنة سالمين. ولأنه أب حقيقى فقد وضع نفسه فى حكم الموت. بينما آخر لم يحيا الأبوة ولم يمارسها فمن أقواله التى ذكرها فى نفس أسبوع قطار الأسماعيلية "أن الأبوة حفظت الكنيسة على مر العصور"!! للأسف هذا الكلام خاطئ لأن الأبوة تحافظ على البشرية إن كانت فعلًا أبوة، الأبوة تضحى من أجل الأبناء. يا لروعة الأبوة الحقيقية.
أيضًا يذكر الأستاذ محمد البرادعى ممثل جريدة "الأهرام" فى قطاع التعليم. حدث أنه فى إحدى جولات د. مصطفى كمال حلمى وزير التعليم فى مدارس محافظة الجيزة. كانت الزيارة لمدرسة إعدادية للمتفوقين. وجمع ناظر المدرسة تلاميذ المدرسة جميعًا فى فناء المدرسة لتحية الوزير الذى رافقه فى الزيارة محافظ الجيزة، وفوجئ السيد الوزير الأب بأن غالبية التلاميذ يقفون "حُفاة فى فناء المدرسة" فى يوم شتاء. الوزير غلبته الدموع تأثرًا من صدمة ما شهده، سأل السيد الناظر كيف يسمح لهؤلاء التلاميذ يحضرون حُفاة إلى المدرسة؟ وكان رد ناظر المدرسة: (أن غالبية هؤلاء التلاميذ فقراء لا يستطيع أولياء أمورهم شراء أحذية لهم، والمدرسة ليست فى ميزانيتها أى أموال إضافية لشراء أحذية لهم). التفت الوزير إلى المحافظ وطلب منه إرسال أحذية لكل التلاميذ غير القادرين من أى بند فى المحافظة. واستجاب المحافظ لطلب الوزير وأرسلت الأحذية للتلاميذ. الأبوة تتفوق على بروتوكول المسئولية وتنحاز للأبناء بمشاعر دافئة.
فى سيرة الأب بيشوى كامل بالإسكندرية عندما بدأ يؤسس كنيسة بمنطقة الحضرة بالإسكندرية – وهى منطقة فقيرة جدًا – شاهد كثير من الشعب (أقباطًا ومسلمين) يقيمون فى مساكن من الصفيح فأشتهى أن يقيم وسطهم ولكن تم منعه من هذا، وكان البديل أنه خصص لهؤلاء ما وصله من مال لهذه الخدمة قام بتوزيعها عليهم. هذه أبوة صادقة. على النقيض من ذلك كان أسقف الإسكندرية يخدم فى منطقة غرب الإسكندرية، وكان هناك مجموعة من الشباب يهتمون بفقراء تلك المنطقة بحماس. حدث فى يوم من الأيام أن أحتياجات أهالى تلك المنطقة كانت كثيرة، فقالوا لنذهب إلى أسقف المنطقة على أساس أنه أب!! فعندما ذهبوا إليه رفض أن يمدهم بأية مساعدة – على الرغم أن هذه المساعدات ذاهبة إلى فقراء المنطقة الذين هم مسئوليته الشخصية – وعندما ألح عليه هؤلاء الشباب بدالة البنين، قال لهم: (هو أنتم عارفين بتكلموا مين؟) وهنا سقطت أبوته فى أعينهم ولم يعد أبًا. المهم بعد ذلك عرضوا علىّ الأمر لأقوم بعرضه على البابا شنودة الثالث الذى قدم كل ما هو مطلوب وقال لى بالحرف الواحد: (لما تكون محتاج لشئ تعال عند أبوك ولا تلجئ لأحد آخر). البابا شنودة الثالث لم يكن يتردد فى أن يعطى كل من يسأله، حتى أن المحيطين به قالوا له أنه من بين السائلين هؤلاء محتالين، فقال لهم كلمته البليغة: (نُعطى للمحتالين من أجل المحتاجين). حدث فى عام 2013 أن أقامت أسقفية الخدمات أحتفالية بمناسبة اليوبيل الذهبى لتأسيس الأسقفية، وكنت أحد المدعوين. أخذ البعض يتحدث ولكن للأسف تحدث من بينهم أسقف "لوس أنجلوس" المخالف، فأخذ ينتقد بوضوح سياسة البابا شنودة – الذى كان قد رحل فى 17 مارس 2012 – وأخذ يعدد نظام مبتدع لتوزيع الأموال على المحتاجين، مع أن كثير من هؤلاء المحتاجين لا يعرفون طريق الوصول لرجال الدين!!
أبوة البابا كيرلس تعدت حدود الأديان والدول. أعتاد بعد أن ينتهى من صلواته اليومية مع شعبه بالكنيسة أن يخرج إلى قاعة بسيطة للأستقبالات – لأنه كان بسيطًا جدًا - ويخرج جميع الشعب وراءه لنوال بركته أو عرض مشاكلهم الشخصية. لم تكن لديه حراسة خاصة كما أن حضور القداسات أو الصلوات المسائية لم تتم من خلال دعوات للحضور، أى شخص – مهما كان شأنه – يمكنه أن يتقابل مع البابا ويتحدث معه بحرية كاملة. حدث فى أحد الأيام بعد أن أنتهى من الصلوات الصباحية بالكنيسة المرقسية بالأزبكية أنه كان من بين الحاضرين لتحية البابا أحد أخوتنا المسلمين الأحباء، فأول ما شاهده البابا مُقبلًا سلم عليه وقال له: (يا راجل أنت الطعمية بتاعتك طِعمة)!! قفز الرجل فرحًا وأسرع إلى محل الطعمية الخاصة به وأعد عددًا من القطع الساخنة ووضعهم – ببساطة شديدة – فى قرطاس من الورق وذهب إلى البابا مقدمًا له قطع الطعمية، أخذها البابا مبتسمًا وشاكرًا وقال لتلميذه: (أهو يا ابنى ربنا بعت لنا الفطار بتاعنا). تأثر الرجل من الأبوة الفائقة للبابا. لم يكن وقت نظام الكشف عن الطعام المُقدم للبابا لأنه كان وقت الحُب ولأن الأبوة فاقت كل حدود الخيانة.
فى حياة البابا كيرلس السادس سافر للخارج مرتين فقط وكانتا لدولة أثيوبيا، الأولى بعد أن أقام لهم جاثليق أثيوبيا عام 1959 والثانية لرآسة أجتماع مجلس الكنائس الشرقية عام 1965 بطلب من الأمبراطور هيلاسلاسى الأول – الذى كان يعتبر البابا كيرلس السادس بمثابة أبوه. حدث عندما أستقل البابا كيرلس الطائرة، أن أخذ معه جميع الأوانى الخاصة بالصلاة. وما أن وصل إلى مطار أديس أبابا وأنتهت مراسم الأستقبال الرسمية كأب حقيقى للأثيوبيين وليس كمسئول رسمى لأن الأبوة أعلى مقامًا من الرسميين، توجه مع الوفد البسيط المرافق له وخلفه الشعب الأثيوبى إلى إحدى الكنائس لإقامة الصلاة (هاتين السفريتين كانتا على نفقة الأمبراطورية الأثيوبية وليس من تبرعات أقباط مصر الفقراء). وهناك صلى القداس الإلهى، وطبقًا لتقاليد الكنيسة القبطية فإن البابا يظل صائمًا منذ منتصف الليل حتى نهاية الصلاة، معنى هذا أن البابا والوفد المرافق كانوا صائمين طوال رحلة الطائرة. لم يكن البابا كيرلس السادس بطريركًا بقدر ما كان أبًا. أبوته هذه وحدت أبناء الشعب المصرى بالعمل الفعلى وليس بالشعارات الرنانة الزائفة، كما أنها عملت على توطيد العلاقة مع الدول على الرغم من أنه كان رجل بسيط ولا دخل له بالسياسة، ولكن أبوته الحارة صنعت المستحيل. وفى اجتماع مجلس الكنائس الشرقية عام 1965 بأثيوبيا، لسبب معين لا أعلمه تأخر عن الوصول، فأمر الأمبراطور بتأجيل جلسات المجلس حتى يصل البابا كيرلس السادس. لا أنسى فى يونيو 1970 كنت أصلى معه منفردًا بدير القديس مينا بصحراء مريوط، وبعد أنتهاء الصلاة جلس على الأرض (نعم على الأرض) وجلست بجواره وأخذنا نتحدث فى أمور شتى. كنت وقتها أبلغ من العمر 20 عامًا وهو يبلغ 68 عامًا، لكنه كان يتحدث مع أبنه بمودة فائقة، ولأن الجلطة التى كانت بقدمه كانت قد أشتدت عليه فقال لى قبل أن ننصرف: (ممكن تنتظرنى حتى أستند عليك لأصل إلى قلايتى). كان الموقف بالنسبة لى فرحًا جدًا، إذ كنت أسير والبابا كيرلس يضع يده اليمنى على كتفى الأيمن ونسير سويًا حتى باب قلايته، لم يكن قصرًا ولا منتجعًا سياحيًا بالخارج تكلف أكثر من 8 مليون دولار من أموال الشعب. أين البابا كيرلس الآن – بعد أن أكمل جهاده بسلام – أنه يطلع علينا من كوة بالسماء يتابع حياتنا وجهادنا ويصلى من أجل الكنيسة فى أزماتها الداخلية حتى تعبر عنها بسلام. لقد وعى البابا كيرلس المثال الذى ذكره السيد المسيح عن "الراعى الصالح"، فكان راعيًا صالحًا حقيقيًا.