رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كلام «الخشت- الطيب».. لم يعجب الشيخ الطيب.. طيب


منذ أيام تم إلقاء حجر فى الماء الراكد، فتحرك الماء وصنع أمواجًا لا تزال تتزايد، وستظل تمتد إلى آفاق لم يتوقعها أحد.. نعم فقد قام الدكتور محمد عثمان الخشت الفيلسوف الكبير، أستاذ فلسفة الأديان، وهو فى الوقت نفسه رئيس جامعة القاهرة، وأظن أن اسمه الآن أصبح معروفًا للجميع، قام هذا الفيلسوف بالذهاب إلى مؤتمر للتجديد، كان الأزهر الشريف قد أعده وجعل من الوزير القديم العتيد صاحب دستور ٢٠١٤ عمرو موسى، الذى جلس فى مؤتمر التجديد، مديرًا لجلسته الأولى. وكان لا بد للسيد عمرو موسى أن يكون حاضرًا ومديرًا للجلسة، فهو الذى جعل وظيفة شيخ الأزهر فى الدستور أبدية، وكأنه رجل دين، أو يتماثل مع نيافة الأنبا، بحيث لا يجوز عزله ويظل فى مقعده إلى يوم أن يقضى الله أمرًا كان مفعولًا.
فى هذا المؤتمر نظر الدكتور الخشت فوجد ماءً آسنا راكدًا، ووجد قومًا يحبون هذا الماء الراكد، ويتغزلون فى هذا الركود، ويظنون الركود دينًا، فهم لم يروا من قبل ماءً جاريًا، مع أن نقاء الماء لا يكون إلا فى جريانه، فأمسك الخشت حجرًا وألقاه فى الماء الراكد لعله يتحرك، ولكن ما هو الحجر الذى ألقاه الدكتور الخشت فى الماء الراكد؟ وقف وقال بكل أدب واحترام وبشكل علمى مدروس إن التراث ليس دينًا، وإننا يجب أن نجتهد لأنفسنا، ونصنع خطابًا دينيًا يتناسب معنا، وإنه لا يمكن تأسيس خطاب دينى جديد دون تكوين عقل دينى جديد، هل هناك من يعترض على هذا الكلام المنطقى؟ نعم هناك من اعترض، لأنه ظن أن كلام الخشت هو دعوة لتغيير الدين، مع أن أصغر تلميذ يجلس فى فصله ليدرس علم المنطق يعلم أن العقل الدينى ليس هو الدين نفسه، بل هو عقل إنسانى يتكون فى التاريخ، وتتداخل فى تكوينه عناصر اجتماعية واقتصادية وثقافية، ويتأثر بدرجة وعى الإنسان فى كل مرحلة.
كل هذا كلام طيب، ولكن الكلام الطيب لم يعجب الشيخ الطيب، شيخ الأزهر، واعتقد أن الدكتور الخشت بخطابه هذا يخرج عن ثوابت الأمة، فقام بالرد عليه بعصبية شديدة لا مبرر لها، لم يراع فى رده مكانة الخشت العلمية وموقعه القيادى، حيث هو رئيس أكبر جامعة مدنية فى الشرق الأوسط كله، وظهر وكأن هناك صراعًا بين الدراسة المدنية والدراسة الدينية، لأن الشيخ الطيب عاب على الجامعات المدنية، وقال إنها لم تفعل لنا شيئًا ولم تنتج «فردة كاوتش»، مع أنها أنتجت لنا وأخرجت عقولًا أنارت العالم بعلمها ولكن يبدو أن الدكتور الطيب لم تتوافر لديه المعلومات الكافية بخصوص هذا الأمر.
ولكن والحمد لله، كان من ناتج هذا الحوار أن انتبه المجتمع لخطر عظيم، هو خطر ثبات الخطاب الدينى عند المفاهيم التى كونها القدماء، وقد كان لهذا الثبات والجمود أكبر إساءة للإسلام، وأكبر إساءة للأمة، والذى سيقرأ كتاب الدكتور الخشت «نحو تأسيس عصر دينى جديد» سيعرف أن الخطاب الدينى هو مفرد من مفردات الخطاب الحضارى، وحيثما ارتفع خطابنا الحضارى واتجه إلى إعمال العقل والإبداع، ارتفع معه شأن الخطاب الدينى واتجه إلى العقل وانتحى بعيدًا عن النقل، وإذا كان للنقل قيمته لا شك فى ذلك، إلا أننا يجب أن نُعمل عقولنا فى ذلك المنقول، الذى وصل إلينا، والمنقول هو القرآن الكريم، وقد أمرنا ربنا بتدبره وفهمه، والفهم لا يكون إلا بالعقل، والمنقول أيضًا ذلك التراث البشرى، الذى وضعه الأوائل لفهم النصوص الدينية، وهذا التراث البشرى نملك أن نرفضه جملة واحدة أو نقبل منه ما لا يتعارض مع العقل والعلم، ومع ذلك فإن الخطاب الدينى يحتاج إلى عناية خاصة، نظرًا للتشويه، الذى حدث للإسلام عبر سنوات طويلة، حيث تغلبت مدارس فقهية من خارج مصر ونقلت فقهها إلينا مع الاختلاف فى البيئة والحضارة، لذلك وبالتدريج أصبحت مدرسة النقل هى المسيطرة على الخطاب الدينى، وابتعدت مدرسة العقل عن التأثير، وترتب على ذلك أننا ومنذ زمن ونحن لا نعيش مع فهمنا نحن للدين، ولكن مع فهم القدماء، لذلك كانت المفارقة، التى جعلتنا نعيش فى القرن الواحد والعشرين، بعقلية من يعيش فى القرون السابع والثامن والتاسع! وكأن الإسلام دين محلى مرتبط بحقبة زمنية محددة ومجتمع بعينه، وهذه أكبر إساءة لعالمية الإسلام وعدم محدوديته، لذلك ومن منطلق أن الله أرسل سيدنا محمدًا، صلى الله عليه وسلم «ليكون للعالمين نذيرًا» وكذا ليكون «رحمة للعالمين»، لذلك فقد اقتضت حكمة الله تعالى أن تتفاعل عقول الناس «النسبية» على مر العصور وعلى اختلاف الأمكنة والأزمنة مع نصوص الدين المطلقة، وسيترتب على ذلك بلا ريب اختلاف الأفهام من جيل إلى جيل، ومن بيئة إلى بيئة، فإذا ربطنا أنفسنا بفهم جيل بعينه نكون قد نزعنا من الإسلام خاصيته العالمية والشمولية، وقد أنتج لنا تجميد الدين عند زمن القدماء جماعات عاشت بعقول أزمنة قديمة، فكان أن تعسفت فى فهم النصوص، واعتبرت أن ما هى عليه هو الحق المطلق! فرفعت سيوفها فى وجوه مجتمعاتها وأطلقت دعاوى التكفير ضد الجميع، وأنشبت مخالبها فى وجوه من يخالفها فى الفهم، فكان القتل وسفك الدماء وتخريب البلاد والسعى للحكم باسم الدين على جثث العباد! ولأن شعارات الدين تخلب العقول وتسلب المشاعر، لذلك وقع تحت أسر تلك الجماعات عدد لا يستهان به من شبابنا، وتعاطفت معهم شرائح من الناس، يظنون أن ما عليه تلك الجماعات هو الدين المطلق، وأن ما سواه هو الباطل المطلق، وأن صراعهم هو صراع الحق ضد الباطل، وجهادهم هو الجهاد من أجل أن تكون كلمة الله هى العليا وكلمة الشيطان هى السفلى!! وكان هذا كله داعيًا لنا أن نسعى إلى تصحيح المفاهيم ومواجهة هذا الشذوذ، الذى أساء للإسلام أيما إساءة.
ولذلك فإننا ونحن فى طريقنا لتصحيح المفاهيم الشاذة يجب أن ندرك أن هناك فارقًا بين الإسلام وبين تراث المسلمين، الإسلام مقدس بقرآنه وسنته الصحيحة لا شك فى ذلك، ولكن التراث هو ذلك الذى وصلت إليه عقول بعض المسلمين الأوائل فى فهمها للقرآن والسنة النبوية، سواء كانت عملية أو قولية، فإذا فهم القدماء تلك النصوص قطعية الثبوت وفق ثقافاتهم وخبراتهم وزمنهم وواقعهم الذى يعيشون فيه، فليس معنى هذا أن باقى المسلمين على مدار العصور مجبرون على أن ينتظموا فى نفس هذا الفهم، وإلا لكان معنى هذا أن الله لم يخلق إلا عقلًا واحدًا ثم استنسخ منه نسخًا بقدر عدد البشر إلى أن تقوم الساعة! ولذلك فإن التراث قد يلقى تقديرًا من المسلمين ومن غير المسلمين بحسب أنه جهد بشرى إبداعى، ولكنه لا ينبغى أبدًا أن يلقى تقديسًا أو تنزيهًا، هو مجرد صورة من صور ثقافات الأزمنة، التى أنتجت هذا التراث، به نستطيع أن نعرف طريقة تفكير المسلمين القدامى وطرق استدلالاتهم، ومدى تأثير ثقافات الحضارات الأخرى فيهم، وكيف نظروا بثقافاتهم هذه للقرآن والنبى صلى الله عليه وسلم، وهل أثرت فيهم ثقافة العرب وهم يكتبون سيرة النبى صلى الله عليه وسلم، أم أنهم تأثروا بثقافات أخرى ليست من بيئاتهم، فالإنسان فى كل العصور لم يكن بمعزل عن الثقافات الأخرى المجاورة له أو البعيدة عنه.
لا أظن أن أحدًا يختلف معى عما سردته آنفًا، ولا سبيل لإنزال هذه المفاهيم من دنيا الأحلام إلى أرض الواقع إلا أن يكون هناك كيان إنسانى ليس هو الأزهر وحده، فهذه مهمة المجتمع بأسره، ولنا فى سبيل ذلك أن ننشئ كيانًا علميًا كبيرًا يضم عقولًا متنوعة فى معارفها وعلومها، تسعى بفكرها وعلومها وأفهامها إلى تأسيس عصر دينى جديد، وفقًا للدعوة التى يحملها كتاب الخشت، فنحن، والحق نقول، أمام معركة ليست هينة، وقد مضى زمن التكاسل والدعة والاسترخاء، وجاء زمن المواجهة التى لا تعرف أنصاف الحلول.