رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لقاء فى ظلام عنتيبى


فى مدينة عنتيبى الأوغندية، لقى الكولونيل (العقيد) يوناثان نتنياهو، مصرعه، فى ٤ يوليو ١٩٧٦، خلال مشاركته فى عملية تحرير إسرائيليين، كانوا على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية الفرنسية، اختطفتها مجموعة من الفلسطينيين والألمان، وهبطت بها فى مطار تلك المدينة، التى شهد ظلامها، مساء الإثنين، لقاء بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلى، شقيق يوناثان الأصغر، وعبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السودانى.
قيل إن زيارة البرهان، غير المعلن عنها مسبقًا، تهدف إلى إجراء محادثات مع نظيره الأوغندى حول شئون إقليمية، لكن تزامنها مع زيارة نتنياهو المعلن عنها، كشف عن سببها الحقيقى، قبل أن يعلن الأخير فى حسابه على تويتر أنه التقى رئيس مجلس السيادة فى السودان «بدعوة من الرئيس الأوغندى يورى موسيفينى واتفقا على إطلاق تعاون سيؤدى إلى تطبيع العلاقات بين البلدين». وفى تغريدة لاحقة، كتب نتنياهو أنه يؤمن بأن «السودان تسير فى اتجاه جديد وإيجابى» وأنه «عبّر عن رأيه هذا فى محادثاته مع وزير الخارجية الأمريكى».
فاجأتنا ردود أفعال من فاجأهم هذا اللقاء، مع أنه يجرى التحضير له منذ خمس سنوات تقريبًا، ومع أن القاصى والدانى والواقف بينهما يعرفون أنه «بترتيب قطرى تركى، امتدت الخيوط بين الخرطوم وتل أبيب، وبدأت الاتصالات المباشرة وعملية التزاور لمسئولين إسرائيليين وسودانيين». وما بين التنصيص ننقله من تقرير نشرته جريدة «التغيير» الإلكترونية السودانية، فى ١٠ ديسمبر ٢٠١٦، نقلت فيه عن جريدة «المنار» اللبنانية أن وفدًا سودانيًا زار تل أبيب، بترتيب من دولتى قطر وتركيا. وقالت الجريدة إن موفدًا إسرائيليًا على مستوى رفيع سيقوم بزيارة الخرطوم بعد الوساطة القطرية التركية.
ما أكد هذا الكلام، أن دورى جولد، المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية، وأحد المُقرّبين من رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، كان قد كتب فى حسابه على «تويتر»، أواخر أغسطس ٢٠١٦، أنّه قام بزيارة سريّة إلى دولة إفريقية إسلامية، لم يذكر اسمها، لكن سرعان ما اتضح أن هذه الدولة هى السودان، بعد تقرير نشرته جريدة «هآرتس»، فى ٧ سبتمبر ٢٠١٦، كشفت فيه عن مطالبة الحكومة الإسرائيلية للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى بالانفتاح على السودان، وعدم تجاهل التوجهات الإيجابية لحكومة عمر البشير.
فى تلك الفترة، شهدت الخرطوم جدلًا كبيرًا إثر تأكيد إبراهيم سليمان، رئيس لجنة العلاقات الخارجية، فى مؤتمر الحوار الوطنى على وجود توافق بين كثير من الأطراف بشأن تطبيع العلاقات السودانية الإسرائيلية. وبالفعل، شهدت جلسات ذلك المؤتمر مطالبة أحزاب سودانية، تدعمها قطر وتركيا بالتطبيع، باعتباره مدخلًا جيدًا لتخفيف العقوبات الأمريكية على السودان، ورفع اسمها من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وتعليقًا على هذه المطالبات، نقلت وكالة الأنباء السودانية (سونا) عن إبراهيم غندور، وزير الخارجية السودانى، منتصف يناير ٢٠١٦، أن بلاده «لا ترهن علاقتها بدولة على حساب أخرى» و«لا تمانع فى دراسة التطبيع مع إسرائيل».
قبل ذلك، كشفت وثائق نشرها موقع «ويكيليكس»، أن عثمان إسماعيل، مستشار عمر البشير، أبلغ ألبرتو فرنانديز، القائم بالأعمال الأمريكى فى الخرطوم، بأن حكومة بلاده يمكنها تطبيع العلاقات مع إسرائيل «إذا مضت الأمور بصورة جيدة مع الولايات المتحدة». وبعد ذلك، كشفت القناة العاشرة الإسرائيلية، فى ٢٨ نوفمبر ٢٠١٨، عن لقاء سرى استضافته إسطنبول بين برسو كاشدان، المبعوث الإسرائيلى الخاص إلى السودان، وعدد من كبار المسئولين السودانيين على رأسهم الفريق محمد عطا، الذى كان مديرًا لجهاز الأمن الوطنى، وصار لاحقًا سفير السودان لدى الولايات المتحدة.
الرئيس السودانى المعزول، حليف قطر وتركيا، كان يطلق التصريحات النارية ضد «الصهاينة»، ويصفهم بـ«العدو رقم واحد للسودان». ولو تشككت فى كل ما سبق، نحيلك إلى مقال كتبه «يوسى ميلمان» أواخر أكتوبر ٢٠١٦، فى جريدة «معاريف»، أكد فيه «إسرائيل دعمت فى العقد الأخير نظام القمع والقتل فى السودان، الذى يقوده عمر البشير». ولعلك تعرف أن العقد يساوى ١٠ سنوات. ما يعنى أن الدعم الإسرائيلى لنظام البشير بدأ سنة ٢٠٠٦ تقريبًا، أى فى السنة نفسها التى شهدت تطورًا كبيرًا فى العلاقات بين الخرطوم وواشنطن، التى يزورها البرهان، الأسبوع القادم، تلبية لدعوة مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكية.
لقاء البرهان ونتنياهو فى ظلام عنتيبى، إذن، لم يكن مفاجئًا للقاصى والدانى والواقف بينهما، أو على الأقل لعبيد وغلمان شبكة «الجزيرة» القطرية، الذين تناولوا الموضوع بشكل عجيب ومريب، اختلط فيه التدليس بمحاولات تدبيس دول أخرى، زعموا أنها قامت بالترتيب للقاء أو وافقت عليه. وعلى هذا النحو، تعاملت كل وسائل الإعلام القطرية والتركية، أو الممولة من الدولتين، مع الزيارة، وأبرزها وكالة أنباء «الأناضول»، وجريدة «العربى الجديد» التى تصدر فى لندن، ويديرها بالوكالة عزمى بشارة، عضو الكنيست الإسرائيلى السابق.