رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

آدم وإبليس في مسرحية «اللوتس الأزرق» لرانية المهدي

رانية المهدي
رانية المهدي

الكاتب الجيد يبهرك بقدرته على خطفك ليجعلك واحدا من شخوصه، تتفاعل معهم تغضب وتثور، تضحك وتبكى، حتى آخر سطر من سطور الحكاية. هذا ما عشته بالفعل فى مسرحية "زهرة اللوتس" للكاتبة "رانية المهدى" والتى تقع فى 350 صفحة، وهذا العدد كفيل بأن يصيب القارئ بالملل، إلا أن قدرة الكاتبة على السرد الممزوج بالتشويق، يجعلك فى حالة ترقب دائم، تحبس أنفاسك حتى النهاية.

تبدأ الكاتبة فصلها الأول بسفينة كبيرة بها سكّير لا يخلو من الحكمة، ومعه أحدب وغراب ينعق، ثم رجل ثرى مختال بغناه، يجاوره رجل دين، تنظر إليهم عجوز ثرية بنظرات غاضبة، تصحبها عباراة وعيد تجعلك تعتقد أن ردة الفعل ستكون أكثر حدة، إلا أننا نفاجأ بصمت مطبق من كليهما. فوق ظهر السفينة أيضا تلك الخادمة السمراء الجميلة، التى تحمل سلة التفاح، والتى يغازلها السكير ويشتهيها الرجل الثرى.

تقفز بنا الكاتبة برشاقة عالية إلى عالم آخر، وحياة أخرى للكاهن الأكبر الذى يتحدث مع "سمارا" الشاب الطيب عن ولايته للعرش بعد ساعات، فنجد "سمارا" متأففا مترفعا عن السلطة، بل ورفض الحكم على الملك السابق "هاتون" بالإعدام لمجرد أنه أحب امرأة، ولكن الكاهن ينهره ويوبخ ضعفه واستكانته المعهودة، ويقول له إن هاتون خالف قواعد الرب بحبه لإمرأة فالمرأة رجس من عمل الشيطان، كما يذكره بغريمه "سرين" ابن المعبد الذى يبغضه ويتربص به لينقض على الحكم. ينصرف الكاهن الأكبر ويبقى "سمارا" مع قلبه الذى احتلته "فُتنة" الجميلة.

تخرج بنا الكاتبة إلى الساحرة عجوز الجبل وهى تترقب سمارا والكاهن من بعيد وكأن الكاتبة أرادت أن تقول إن هذه العجوز لها نصيب من الحكاية. ثم تخرج بنا الكاتبة إلى بطل جديد من أبطال حكايتها، وهو الكاتب المأزوم الذى تخرج شخصيات حكايته لتملأ رأسه ضجيجا فيصاب بدوار، ثم يرفض تناول الدواء من يد خادمته، التى تحملته لعقود، والتى أحبته وأفنت عمرها فى خدمته حتى يتزوجها، غير أنه تفرغ للكتابة، فلم يتزوجها ولم يتزوج غيرها. وبطريقة قائد الأوركسترا تنوع الكاتبة فى أدواتها فتطير بنا مرة أخرى إلى سفينة التفاح، وحالة الترقب بين العجوز ورجل الدين والثرى والسكير والأحدب والغراب الناعق والسمراء الجميلة. ثم تميل بنا إلى سمارا وهو فوق كرسى العرش وأمامه الملك السابق هاتون الذى يقول إن الحب هو أجمل شئ فى الوجود فلماذا تجرمونه؟ وقبل أن يصدر سمارا قرارا بالعفو عنه يكون الكاهن قد أشار إلى السياف فأطاح برأسه، ثم تدخل حبيبته التى سمتها الكاتبة حبيبة فيكتفى سمارا بسجنها وعدم إراقة دمها.

لنكتشف أن الذى وشى بها وأذاع سرها وسر الملك هو شقيقها "شمعون" بأمر من سرين الذى يريد كرسى العرش. لذا يبحث شمعون عن شعلان ويطلب منه أن يذهب إلى الكهنة ويخبرهم بقصة حب سمارا وفتنة.

ثم تأخذنا الكاتبة إلى فتنة التى تطلب من سمارا أن يترك العرش والسلطة ويهرب معها ليبقى الحب بينهما إلى الأبد ولكنه أراد أن يغير دون أن يهرب.

تتركنا الكاتبة فى حالة ترقب ثم تعود إلى السفينة، لنجد خادم الثرى يطلب من الخادمة السمراء أن تذهب معه إلى سيده، فتنهره فيضربها ويحاول جرّها بالقوة، فيدفعه السكير فتحدث الجلبة وتتهم الخادمة والسكير بسرقة التفاح، فيحكم رجل الدين لصالح الثرى.

ثم تخرج بنا الكاتبة إلى الكاتب المريض وسيدة الجدار التى تطلب منه أن يفعل شيئا، ولكنه لا يقدر فتطرح فى رؤوسنا سؤالا من هذا الكاتب؟ هل هو القدر أم أنه مجرد كاتب وهؤلاء شخوص فى روايته؟ ولكن الكاتبة التي زرعت السؤال بداخلنا لم تجب بل ركضت بعيدًا لنركض خلفها، فنجد ساحرة الجبل تقف أمام كاهن المعبد، لتخبره أنها تعرف أن سهمه هو الذى أصاب شعلان ابن عم فتنة، وأنها لن تترك له ابنها سمارا ليغوص فى بحار الدم، لنكتشف أن سمارا ابنها، يفغر سرين فمه من خلف عمود بالمعبد يحجب الجميع عن رؤيته. فيقول لها الكاهن لا تنسى أننى أنا أبوه، يكاد سرين أن يجن، فيظهر أمامهما منتشيا ويقول لكاهن المعبد لقد حكمت على هاتون بالموت لأنه أحب، وها أنت قد أحببت وأنجبت، يدخل سمارا فيخبره سرين بالسر فيندهش، ولكن الكاهن الأعظم يضحك ويقول لسرين متعجل أنت دائما فالذى لا تعرفه أنك شقيق سمارا التوأم. وانظر الى التشابه فى ملامحكما. وتذكر أنك كنت تمرض حين يمرض، تندهش العجوز وتسأله ألم تخبرنى أن توأم سمارا قد مات؟ فيضحك الكاهن فيثور سرين معتقدًا أنها حيلة من الكاهن فسولت له نفسه قتل أخيه فقتله، فتنظر العجوز إلى الكاهن فتقول أنه أنت. وهنا ندخل فى عمق المسرحية لنعرف بطريقة مبطنة أن الكاهن الأعظم هو إبليس، فيقول أنتم تزرعون الشر وأنا أفضل منكم. كما قال إبليس لربه: "أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين ".

تأمر العجوز أن يفر ابنها سرين وفتنه إلى السفينة، وهناك تصبح العوالم بلا أسماء لنجد الكاتب وسيدة الجدار على متن السفينة، والثرى يضع سكينه على رقبة السمراء، ولا نجد فتنه ولا سرين ربما أرادت الكاتبة أن تقول إن السمراء هي فتنة والعجوز هى سيدة الجدار ورجل الدين هو الكاهن أو إبليس.

يفر الكاتب من السفينة ليذهب إلى نهر النيل فيلتقى ايزيس وكأنها حبيبة التى كانت تلملم أجزاء هاتون. وهنا لى تحفظ على ظهور اسم إيزيس، كان يجب أن تترك الكاتبة مساحة للقارئ ليعرف من هى دون مباشرة، كما أنى لم أكن أحبذ وجود شهرزاد وشهريار فى المسرحية، ولكن يبدو أن الكاتبة أرادت أن تنهل من الموروث الثقافي والشعبي أكثر من أقصوصة.

إجمالا نجحت الكاتبة رانية المهدي في أن تهدي المكتبة العربية مسرحية رصينة جمعت فيها بين الواقعية والخيال والتاريخ. وتناولت القضية الأزلية بين الخير والشر أو بين آدم وإبليس. وقتل قابيل لأخيه هابيل، كما بيّنت أن قابيل قتل أخاه ليس بسبب امرأة، بل بسبب جشعه وأن حواء لم تخرج آدم من الجنة بسبب التفاحة بل إن آدم هو المسؤول عن طردها من الجنة، وإن كنت أعيب على الكاتبة فى هذه، لأنهما شركاء. فالله يقول "فوسوس لهما الشيطان ".

كما ذهبت الكاتبة إلى أسطورة إيزيس وأوزوريس وحكاوى ألف ليله وليلة. واستخدمت الكاتبة لغة رصينة وجذابة تنم عن كاتبة لها قاموس ثري جعل الكلمات طيّعة بين يديها. في الأخير تنتهي فصول الرواية لتبقى زهرة "اللوتس الأزرق" مع إيزيس رمزًا للحب والحياة.