رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جولة في مستعمرة الجذام.. نظرات الناس طردتهم وانقطعوا عن العالم

مستعمرة الجذام
مستعمرة الجذام


"لقيت عذابًا نفسيًا كالجحيم جراء نظرات الناس لي، فحبست نفسي خلف أسوار مستعمرة الجذام"، يقولها ياسر عزت، أربعيني، فرد أمن، وهو واحد من الحالات التي تتردد على المستعمرة لتلقي العلاج.

أُصيب "عزت" بالجذام منذ كان صبيًا، وأصبح يُعد ضمن الحالات المصابة بهذا المرض، ويروي أن قراره للإقامة بالمستعمرة جاء بعدما لاقى عذابًا نفسيًا واجهه بعد ابتعاد الكثير عنه، وخشيتهم الاقتراب منه أو مجرد ملامسته للمصافحة خوفًا من انتقال العدوى إليهم، ظنًا منهم أن الجذام مرض معدي، يقول: "هنا قررت أن أقيم بالمستعمرة بشكل كامل أتلقى العلاج، وأهجر هذا العالم الخارجي الذي يرفض وجود مريض الجذام به، ويدمره نفسيًا يومًا بعد يوم بنظرات قلق العدوى والخوف هذه".

تلقى "ياسر" جرعات مكثفة من العلاج، حتى أصبح حامل لمرض ولكنه سلبي، أي غير معد، والآن يتجول داخل مستعمرة الجذام، وكأنه يسير داخل أرجاء منزله، يتبادل الضحكات مع طاقم التمريض، يستمع إليهم حكاياتهم وهم في المقابل يهونون عليه، وكأنهم جميعًا أفراد عائلة واحدة.

بعد ما أصبح "ياسر" مريضًا سلبيًا، وتوقف نشاط المرض بجسده إلى حد معين ووقف عن التطور، قرر الزواج، يضيف: "تزوجت من ابنة عمي بمحافظة المنوفية، وأنجبت ثلاثة أبناء إحداهن كان زفافها قبل أيام، فأبقى داخل المستعمرة طيلة الأسبوع، وأسافر إلى زوجتي وأولادي في المنوفية يومًا واحدًا"

في تلك الأيام، يحتفل العالم باليوم العالمي بمرض الجذام، وذلك في يوم 28 يناير من كل عام، لرفع مستوى الوعى بالمرض، "الدستور" زارت مستعمرة الجذام في أبو زعبل، وهي المدينة الوحيدة في مصر التي تستقبل وتعالج حالات الجذام.

المحطة الأولى كانت مستعمرة الجذام، مكونة من 3 أجزاء قائمة بذاتها، تقولها الممرضة، المستشفى الرئيسي وهو الخاص باستقبال حالات الطوارئ أو الحالات الجديدة بشكل عام، وهي مكونة من 5 عنابر أساسية، وعلى مقربة من العنابر الرئيسية يوجد القسم الخاص بالرجال وآخر للسيدات، وكل منهم يتكون من عنابر خاصة به.

يروى أنه منذ 100 عام، أُصيبت أعداد ضخمة بمرض الجذام، وانتشرت العدوى بين الناس كالنار في الهشيم، ما أدى إلى قيام الشرطة بإجبار جميع المصابين بالقوة إلى مستعمرة الجذام، على أن يعيشوا فيها مع أسرهم طوال حياتهم.

ممرضة: المرض مُعدي في حالات نادرة

رابحة سيد، واحدة من الممرضات اللاتي تعملن في مستعمرة الجذام، كشفت أن المستعمرة سُميت بهذا الاسم؛ لأنها بمثابة مدينة مخصصة يتعايش فيها الحالات التي تعاني من الجذام، كما أنها مجهزة بكافة الإمكانيات بدايةً من الأطباء وطاقم التمريض وصولًا إلى الأجهزة الطبية والأدوية، ليساعدهم ذلك على ممارسة حياتهم بشكل طبيعي.

مكافحة العدوى هي مسئولية تلك الممرضة في المستعمرة، فبحسب حديثها أن "الجذام" ليس معديًا على الإطلاق، سوى في مراحل معينة من المرض ومع حالات خاصة، مستطردة أن المرض ممكن أن يكون معديًا في بداياته، أي في حالة عدم اكتشافه بعد من قبل أهالي المريض.

عينة دم تُؤخذ عن طريق الأذن للكشف عن مرض "الجذام"، وفي البداية يتردد المريض وأسرته على العديد من المستشفيات والأطباء، دون معرفة سبب المرض الذي قد بدت أعراضه على جسد المريض؛ وذلك نظرًا لصعوبة تشخيص المرض في مراحله الأولية، ومن الممكن أن تنتقل العدوى في تلك الأثناء، وبمجرد تشخيص الحالة بمرض "الجذام" ونقلها إلى المستعمرة هنا، يتم التعامل معها بشكل سريع عن طريق إعطائها جرعات مكثفة من الأدوية، مع عمل كافة الفحوصات والتحاليل، بحسب الممرضة رابعة.


استكملت "رابعة"، كل من العنابر الخاصة بالسيدات والرجال بها كافة وسائل المعيشة التي تحتاجها الحالات لممارسة حياتهم اليومية داخل العنابر ولا ينقصهم أي شئ، فكل عنبر ملحق به مطبخ خاص لإمكانية أن يقوم المرضى بطهي الطعام لأنفسهم.

بحسب منظمة الصحة العالمية، فإن "الجذام" مرضًا مزمنًا قليل العدوى، فهو لا يسري بسهولة من شخص إلى آخر، ويأتي بسبب جرثومة عضوية تسمى المتفطرة الجذامية، وعادةً ما يصيب الجلد والأعصاب المحيطية، ومخاطية السبيل التنفسي العلوي، والعينين.

إذا لم يعالج مرض "الجذام"، يمكن أن يسبب ضررا مترقيا ودائما للجلد والأعصاب والأطراف والعيون، إذ أن تأثيره على أعصاب محيطية معينة قد يؤدي إلى أنماط من العجز، تؤدي في النهاية إلى تقرح الجلد وتشوه بعض المفاصل.
عبد السلام: مريض بالجذام ويعيش في المستعمرة وهو في الـ 19 من عمره

بوجه بشوش استقبلنا أحمد عبد السلام، أحد أبناء المستعمرة كما يحب أن يُنادى، والذي ظهر على وجه علامات من الرضا تتعجب لها الأبصار قائلًا: "وهبني الله المرض منذ أن كان عمري 19 عامًا، وأنا من حينها أشكره دائمًا على هذه الهبة وأرضى بقضاء الله وقدره"، متابعًا: "لكنني ما شعرت بأذى نفسي إلا حينما وجدت نظرات المجتمع الجارحة لمريض الجذام باعتباره مرضًا ينفر منه الجميع ففي الحي الذي أسكن به هجرني الجيران، والأصدقاء وكذلك زملاء الدراسة إلى أن سمع أهلي بهذه المستعمرة وقرروا إقامتي بها.

يوضح عبد السلام، أنه منذ أن وطأت قدماه هذه المستعمرة لاقى معاملة جيدة من جميع العاملين بها، قائلًا: "الاهتمام هنا في جميع المناحي الصحية من جميع من بها، وجدت في المستعمرة الراحة النفسية التي عوضتني عن صعوبة التعامل مع العالم الخارجي، فجميع من بها يعملون على خدمته، يتفهمون طبيعة مرضه الذي لا ينتقل بالعدوى "بناكل في طبق واحد"، في إشارة منه إلى أنه استطاع الهروب من نظرات رعب الأفراد التي عانى منها خارج المستعمرة لكونه مريضًا للجذام.

الجميع هنا يتعامل معه باطمئنان وود وكأنه شخصًا طبيعيًا كغيره من الأفراد، وهو أكثر ما يسعده وينسيه بعض العجز الذي أصاب أطرافه جراء هذا المرض، والذي يوضح أنه تغلب عليه أيضًا قائلًا: كما يوضح أنه تعايش مع الوقت مع مرضه وأصبح يمتهن بعض الأعمال الإصلاحية داخل المستعمرة مثل بعض أعمال الصيانة، يتقاضى مقابلها أجرًا رمزيًا من إدارة المستعمرة يسعده ويشعره أنه مازال له دور بالحياة
مصر وصلت إلى المعدل العالمي الطبيعي من المرض

صرحت هيئة "كاريتاس" الألمانية، المعنية بشؤون مرضى الجذام حول العالم كأحد أنشطتها، إنه بحلول عام 2018 وصلت نسبة المصابين بالجذام في مصر إلى المعدل العالمي الطبيعي، وأعلنت عن نجاحها في مصر بموجب البروتوكول الذي تم عقده منذ 1979 مع إدارة الجذام بوزارة الصحة المصرية بهدف الوصول إلى النسب العالمية الطبيعية.
عيد: ليس لدي مكان أعرفه سوى مستعمرة الجذام

لم تختلف تفاصيل حياة حسن عيد، خمسيني، عن بقية الحالات، وهو الذي استقبلنا على بوابة الدخول لمستعمرة الجذام، يقول: "لم أتواجد هنا بإرادتي أو باختياري، ولكن المرض أجبرني على البقاء هنا منذ زمن طويل، وأعتقد أنني إذا رأيت أهلي وأسرتي لم يعرفونني، وأنا كذلك".

حالتي الآن أفضل من السابق بكثير، فأتلقى العلاج بشكل دوري حتى أصبحت ضمن الحالات السلبية للمرض، أي غير المعدية ووقف تطور المرض عند هذا الحد، ولكنني في المقابل شعرت بالقسوة والغلظة من معاملة البشر، الذي بمجرد معرفة مرضك يبتعدون عنك.

هنا عزبة "الصفيح"

في أقصى محافظة القليوبية، على أطراف مدينة أبو زعبل، وعلى مقربة من مستعمرة الجذام يستوطن أناس منذ عقود طويلة، قد نهش المرض في أجساد معظمهم، ضيق الحال ظهر جليًا على المستعمرات السكانية في العزبة، ووجوه الناس لم تُخف هذا أيضًا، فلا يجدون أدنى الخدمات اللازمة للإقامة وسط حياة قاسية أجبرتهم على العزلة، التي لم يختاروها وفرضها عليهم مرض "الجذام".

فتحي: يعيشون ويموتون دون أن يشعر بهم أحد

اضطررنا إلى العيش هنا؛ بسبب المرض الذي عانى منه والدي"، وليد فتحي، لديه محل بقالة صغير، مستطردًا أنهم على مدار سنوات طويلة، تحملوا الحياة القاسية على أطراف البلد هنا في هذه العزبة؛ بسبب عدم وجود أي مستشفى أو مكان مجهز لاستقبال حالات الجذام في مصر سوى في مستعمرة الجذام بأبو زعبل، واصفًا الحياة في العزبة: "لم نجد مكان يرحب بنا سوى عزبة الصفيح، وعانينا كثيرًا من نظرة المجتمع السلبية تجاههم، جراء هذا المرض الذي يتسبب في مضاعفات خطيرة تنتهي بتشوه الوجه والأطراف.

ظل أبي يتردد على المستعمرة لتلقي دواء الجذام، حتى يمنع تطوره ويقف عند هذا الحد، بعدما تآكلت أطرافه من اليدين والقدمين، فكان كثيرًا ما يفقد الإحساس في أطرافه ويتسبب هذا في إصابته بجروح لم يشعر بها، وتعتبر هذه من أعراض الجذام عند معظم الحالات.. يقولها "وليد".

وتابع "وليد" حديثه: نتيجة جرعات الدواء الزائدة التي لابد منها، تعرض والدي إلى الإصابة بفيروس سئ، هكذا شخصه أطباء مستعمرة الجذام، فمن ضمن الآثار الجانبية لمرض الجذام هي الإصابة بأمراض أخرى كالسكري أو فيروس سي، التي تؤدي إلى ضعف المناعة وفي نهاية المطاف تنتهي حياتهم بالوفاة، عاشوا حياتهم لم يشعر أحد بمدى معاناتهم وذهبوا هكذا.


مصطفى: تعايش والدي مع الجذام إلى أن توفى

يقول هشام مصطفى، سائق توك توك: كان والدي يعاني من "الجذام" منذ صغره، فجاء إلى المستعمرة لتلقى العلاج، آملًا في الشفاء منه، وعندما وصل إلى سن الزواج، أخذ الخطوة ولم يتردد فيها، وعيه أقام بيته الصغير في عزبة الصفيح؛ لأنها كانت المساكن الأقرب إلى مستعمرة الجذام.

"لم تتركه أمي، وتحملت جميع ظروفه، ومنذ أن فتحنا أعيننا على الحياة ونعلم أن والدي يعاني من الجذام، وجميعنا بصحة جيدة ولم يسبق لأحد منا أن تعرض إلى هذا المرض، ومن المؤكد أننا كنا نتعامل ونتواصل مع والدي بشكل مباشر؛ وهذا لأن المرض غير معد بالأساس، وكبرت أنا وتزوجت وأخوتي هكذا دون أن نعاني من أية أمراض، وتعايش أبي مع المرض إلى أن لاقى ربه منذ سنتين".

مؤخرًا، وجهت مديرية الشئون الصحية بمحافظة الأقصر بقيادة الدكتور السيد عبد الجواد، قوافل طبية لدعم مرضى الجذام في جميع مدن المحافظة، وبكافة الوسائل المتطورة والحديثة للعلاج من المرض، وذلك فى مستشفى الأقصر العام برعاية فريق أصدقاء "مرضى الجذام"، أيضًا تم تنظيم قافلة من سلسلة القوافل المتكررة لدعم مرضى الجذام بالمحافظة على مدار الفترات الماضية.

بحسب الأرقام الرسمية التي وردت من 138 بلدا من جميع أقاليم منظمة الصحة العالمية، ومنها مصر، إلى أن انتشار الجذام العالمي المسجل بلغ 176176 حالة في 2016 أي 0.18 حالة لكل 10000 شخص، في انخفاض ملحوظ عن السنوات الماضية.

وأشارت المنظمة، إلى أنه قد نجح العالم في التخلص من الجذام كمشكلة من مشكلات الصحة العمومية في عام 2000، أي أنه حقق معدلا لانتشار الجذام يقل عن حالة واحدة لكل 10 آلاف نسمة على الصعيد العالمي، وقد تم شفاء نحو 16 مليون مريض بالجذام بواسطة المعالجة بالأدوية المتعددة خلال العشرين عاما الماضية.

لا يزال بعض الدول لديها مناطق لم تحقق التخلص من مرض "الجذام"؛ مثل السودان ومصر واليمن، فيقع ما بين 300 و900 حالة جديدة سنويا في تلك البلدان، أما في بلدان المغرب وأفغانستان وجمهورية إيران الإسلامية والصومال، فتقل النسبة إلى أقل من 100 حالة جديدة سنويا، وفقًا للأرقام الصادرة عن منظمة الصحة العالمية.