رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«مؤتمر برلين».. ما له وما عليه


ألمانيا تتعامل ببراجماتية مع الأزمة الليبية، لأن أوروبا تدفع ثمن الفوضى.. درس استوعبته من خطأ تدخل ناتو لإسقاط نظام القذافى، انتشر الإرهاب، وعبر المتوسط إلى قلب القارة العجوز.. أوروبا لن تكرر الخطأ الذى ارتكبته فى سوريا، عندما تركت روسيا تستأثر بمعادلات الحرب والسلام، ومن خلالها تمددت تركيا، بعلاقاتها المتشعبة مع التنظيمات المسلحة.. أوروبا أدركت أن التنافس الفرنسى الإيطالى كاد أن يُضَيِّع الملف الليبى، فأعطت الفرصة لألمانيا، التى استضافت، منذ سبتمبر الماضى، خمسة اجتماعات تحضيرية، بمشاركة ممثلى الدول والمنظمات الدولية المعنية، وضعت خلالها المسودة النهائية لمؤتمر برلين «١٩ يناير ٢٠٢٠».
المؤتمر جمع ممثلى الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن، لأن تنفيذ قراراته فى حاجة لتوافق أصحاب الـ«فيتو»، وتعاون الأمم المتحدة، وثلاث من دول الجوار «مصر، إيطاليا، الجزائر»، تركيا بحكم تدخلاتها الصريحة أصبحت قوة على الأرض، تؤثر فى التوازن العسكرى، والإمارات بحكم دورها المتصاعد فى التعامل مع الأزمات الإقليمية، فضلًا عن ممثلى الأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقى، والاتحاد الأوروبى، وجامعة الدول العربية.. قطر لم تتم دعوتها لتجريد تركيا من حلفائها التقليديين.. وتم تجاهل تونس فى البداية، وعندما دُعِيَت تعللت بأن الوقت لم يعد كافيًا لترتيبات المشاركة، لأنها حرصت على تجنب استمرار الانتقادات الصادرة من البرلمان والرأى العام والأحزاب، منذ استقبال أردوغان، وزيارة الغنوشى لأنقرة.. إقصاء المغرب يمكن تفسيره بانعدام دوره فى التأثير على الأزمة الليبية حاليًا، ودوره فى خروج مفاوضات الصخيرات بنتائج زادت الأزمة تعقيدًا.
هايكوماس، وزير خارجية ألمانيا، سافر إلى بنغازى لتوجيه دعوة رسمية لحفتر، فى الوقت الذى تمت دعوة السراج برسالة قبل موعد المؤتمر بساعات.. إجراء ذو دلالة، يؤكد الاعتراف بالجيش الوطنى، وبالدور الفعال لحفتر.. مقارنة برئيس «حكومة الوفاق» الذى فشل فى مهمته، وانشغل بتثبيت مقعده، استنادًا للميليشيات، وبالاستعانة بالقوات التركية، فسقطت الحكومة، وغاب الوفاق، وأفل نجمه.. القائدان المتخاصمان تم تغييبهما عن المؤتمر، وعن المشاركة فى ديباجة البيان الختامى، حتى عن الصورة التذكارية للوفود المشاركة، لأن الهدف هو التوصل إلى حل، بالتدويل الكامل للأزمة.
البيان الختامى يعكس نجاحًا فى مواجهة الأزمة: الدعوة إلى وقف إطلاق النار وتثبيت أوضاع القوات، وسرعة تطبيق إجراءات تعزيز الثقة.. الامتناع عن أى تدخل خارجى.. التطبيق الصارم لإجراءات الحظر على توريد الأسلحة.. تسريح ونزع سلاح الميليشيات، وإمكانية دمج الصالح منها بشكل فردى للمؤسسة العسكرية والأمنية.. إنشاء جيش وطنى وشرطة وقوات أمن موحدة، تستند إلى نتائج مفاوضات القاهرة.. ضمان أمن وتشغيل المنشآت النفطية.. إنشاء آلية لإعادة الإعمار الاقتصادى، ومعالجة أوضاع المدن المتضررة.. تشكيل لجنة لمتابعة نتائج المؤتمر برعاية الأمم المتحدة، تنعقد شهريًا، بخلاف جلسات فرق العمل الفنية والخبراء.
اللقاء الصحفى الذى تم بعد المؤتمر ترأسته أنجيلا ميركل وأنطونيو جوتيريس، تأكدت فيه نتائج محددة أبرزها: الالتزام بسيادة واستقلال ووحدة ليبيا؛ وبالتالى لا موضع لاستمرار السراج بالمنطقة الغربية، على جثة وحدة التراب الليبى، سيطيح به تشكيل المجلس الرئاسى الجديد، وستستبدل حكومته بأخرى تحظى بثقة البرلمان، بحيث تتسنى العودة إلى المسار السياسى، وتجرى انتخابات برلمانية ورئاسية.. عدم السماح بالحل العسكرى للأزمة، وهذا يعنى رفض تحرير طرابلس عسكريًا، هذا القيد ربما لا يعجبنا، لكنه المفروض إنسانيًا، ففى ظل وجود هذا الكم الهائل من المتقاتلين والأسلحة والكثافة السكانية بالعاصمة المكلومة، فإن فكرة الفتح العسكرى تعنى بحورًا من دماء المدنيين الأبرياء، وهذا غير عادل.. رفض أى تدخل فى الصراع، أو فى الشأن الداخلى الليبى، وهذا موجه لتركيا بالدرجة الأولى، ويقوض دورها وطموحاتها الاستعمارية.. التأكيد على حماية الجيش والشرطة، وقوات الأمن، للمناطق السكنية والمنشآت الحيوية ومرافق البنية التحتية، مما يعنى أن الجيش الوطنى سيتم تمكينه من كامل الأراضى الليبية وفق ترتيبات أمنية تكفل استعادة سلطات الدولة المختطفة بمعرفة الميليشيات.
والمهم أن الأمور لن تقتصر على اتفاقيات ومبادئ تتبخر بانتهاء المؤتمر، لتعود الفوضى كما كانت، لكن هناك ترتيبات أمنية على الأرض، ولجانًا فنية لتثبيت وقف إطلاق النار، وأخرى للإشراف على تسريح ونزع سلاح الميليشيات، وعقوبات يفرضها مجلس الأمن على المخالفين.. هذه الإجراءات بدأ الإعداد لها منذ أسابيع، حتى إن جوتيريس أحال لأعضاء مجلس الأمن، منتصف يناير الجارى، وثيقة خاصة أعدتها بعثة الأمم المتحدة فى ليبيا، تتضمن: تحديد مسارات دعم وقف إطلاق النار.. التطبيق الحازم لحظر توريد الأسلحة، وفرض عقوبات دولية على انتهاكه.. إنشاء أجهزة أمنية وشرطة وقوات عسكرية موحدة، استنادًا لما أسفرت عنه محادثات القاهرة الخاصة بإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية الليبية من نتائج.. وهناك عروض من إيطاليا وألمانيا للمشاركة بقوات، الأخيرة لا غبار عليها، لكن الأولى ترتبط بعلاقات وثيقة مع الميليشيات، ولديها قوات تتمركز حاليًا بمصراتة، لذلك فهناك تحفظات عليها، حتى لو اتفقت مع الموقف الأوروبى الرافض لاتفاقيات السراج، لأن هذا الرفض نابع من تنافس وتعارض مصالح لا عن قناعات.
مؤتمر برلين وضع آلية «٥+٥» لمنع موسكو من اختطاف الملف الليبى، الخمس دول الأولى هى الأعضاء الدائمة بمجلس الأمن، والأخرى هى ألمانيا وإيطاليا ومصر والجزائر والإمارات.. استبعاد تركيا من عملية التسوية صفعة قوية لها.. المشاركة الأوروبية الفعالة فى تسوية الأزمة أقرب إلى مصالح ليبيا ومصر، أما تولى موسكو، رغم كل ما يربطنا بها من علاقات استراتيجية، فإنها تحمل معها فرص مجاملة لحليفها التركى على حساب ليبيا والعرب، تلك هى السياسة التى تحكمها المصالح، مما يفرض علينا الحفاظ على زخم الجهد الدبلوماسى، للإبقاء على الدور الأوروبى، ومنع استئثار موسكو بملف الأزمة، على نحو ما فعلت عندما اختطفت الملف السورى من جنيف إلى سوتشى، فعاثت تركيا فسادًا فى الشمال السورى.
عشية عقد المؤتمر هدد أردوغان أوروبا بأن «العنف فى طرابلس قد يؤدى إلى تدفق موجات جديدة من اللاجئين»، ثم نصَّب نفسه وصيًا «تركيا أصبحت مفتاح السلام فى ليبيا».. لذلك كان المؤتمر بمثابة فخ كبير لبلاده، وخرج بقرارات تقوض أطماعها فى ليبيا وشرق المتوسط.. لأن أوروبا تتخوف من سياسة تركيا بقيادة أردوغان وحزب العدالة والتنمية، التى تعيد إنتاج سياسات الإمبراطورية العثمانية، بتدخلاتها الخارجية المقوضة لأمن الإقليم، أوروبا تتوقع محاولات تركية لتعطيل مسارات الحل السياسى للأزمة الليبية؛ حفاظًا على مصلحتها فى استمرار السراج، والإبقاء على الاتفاقيات الموقعة معه، ونقل إرهابيى إدلب لليبيا، تجنبًا للتوتر مع الحليف الروسى، فضلًا عن تمكين الإسلام السياسى فى طرابلس، وتعزيز دور الإخوان فى شمال إفريقيا، كمقدمة لنجاح مشروع «العثمانية الجديدة».
الترتيبات المتعلقة بمراقبة وقف إطلاق النار ونزع سلاح الميليشيات، ربما تستغرق بعض الوقت، لتوفير القوات والآليات والمعدات وشحنها، على الجيش الوطنى ألا يسمح، خلال تلك الفترة، بأى خرق للهدنة، سواء باسترداد الميليشيات مواقع محررة، أو تلقى أى دعم خارجى، خاصة أنه لا توجد حتى الآن آلية لوقف تدفق الأسلحة إلى ليبيا، حتى إن ميركل عندما سئلت عن ذلك أكدت أنه فى حالة تكرار أى دولة اختراق قرار الحظر سيتم فضحها على المستوى الدولى!! وكأن فضحها فى التقارير الدورية التى أصدرتها بعثة الأمم المتحدة للمراقبة فى ليبيا بما تضمنته من تفاصيل دقيقة عن حجم ما تهربه من أسلحة وذخائر وأفراد، قد ردعتها.. استمرار الضغط على الميليشيات هو الآلية الكفيلة بمنعها من توظيف وقف إطلاق النار فى تحقيق مكاسب جديدة، تشجعها على خوض جولة أخرى من الحرب، لإجهاض خطة حلها.
الدور المصرى داخل المؤتمر كان بنِّاءً وكذلك الاجتماعات التحضيرية؛ وقدمت مصر ورقة عمل تعكس رؤيتها لحل الأزمة، خاصة ما يتعلق بإيجاد آلية واضحة لنزع أسلحة الميليشيات بعد إقرار حلها، وكيفية منع تدفق المقاتلين الأجانب، وعمليات التقسيم العادلة للثروات وعائدات النفط، وآليات إطلاق مسار الحل السياسى الشامل، كما قدمت تصورًا متكاملًا لإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية والشرطة والأجهزة الأمنية، فى ضوء ما أسفرت عنه جولات الحوار الليبية فى القاهرة، ما يفسر ثناء أنجيلا ميركل على الدور البناء لمصر فى إنجاح المؤتمر، وتأكيد وزير الخارجية الأمريكى أنه «لولا موقف الرئيس السيسى لتعرضت ليبيا لكوارث عديدة».
نتائج مؤتمر برلين تؤكد أن أوروبا وعت درس ميونخ.. ألمانيا النازية كانت تتمدد فى أوروبا ثلاثينيات القرن الماضى، نفس التمدد التركى الراهن فى المنطقة العربية.. عندما ضمت ألمانيا إقليم السوديت التشيكوسلوفاكى بحجة أنه يضم أغلبية ناطقة باللغة الألمانية، وهى نفس الحجة التركية بأن هناك مليون ليبى من أصول تركية، وقع تشمبرلين رئيس وزراء بريطانيا آنذاك معاهدة ميونخ ٣٠ سبتمبر ١٩٣٨، مبررًا ذلك بحرصه على السلام وسعيه لتفادى حرب عالمية.. ونستون تشرشل هاجمه تحت قبة البرلمان «لقد كان على بريطانيا أن تختار بين المهانة والحرب، فاختارت المهانة، ولكن المعاهدة ستفتح أبواب جهنم، وستقود إلى حرب شاملة؛ لأنها ستفتح شهية هتلر لمزيد من الأراضى».. بعد أقل من عام نشبت الحرب، وتعرضت لندن وكل أوروبا لأعنف حرب وموجة خراب فى التاريخ.
هل تكون قرارات برلين بداية لاحتواء التمدد التركى.. أم سيؤدى التراخى إلى عودة دولة الخلافة العثمانية بكل ما تحمله من مخاطر على دول المنطقة العربية وأوروبا.. وهى نفس المخاطر التى كانت تمثلها دولة الخلافة الإسلامية «داعش» قبل أن تسقط.. تعاقب الخلافتين أمر يثير الدهشة، ويستحق التدقيق؟!