رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأدب الدعائى.. الحكومى والثورى


«تعرفوا.. هذا بالويف» رواية للكاتب السوفيتى فاديم كوجيفنيكوف، كتبها عام ١٩٦٠ ونشرها مع ثلاث قصص أخرى طويلة، خلال حكم نيكيتا خروتشوف، الذى قيل إنه كان المسودة الأولى لتجربة جورباتشوف وسياسة إعادة البناء. الرواية تدور حول إنشاء خط أنابيب نقل غاز ومصاعب تلك العملية. فى القلب من الرواية بطلها الأساسى «بالويف»، المشرف على العمل. والرواية نموذج لما يمكن أن نسميه «الأدب الدعائى» الذى يقتصر دوره على تجميل سياسات النظام الحاكم وتبريرها والإشادة بها، بغض النظر عما يجرى على أرض الواقع وعن التناقضات والصراع الذى تشغى به الحياة.
ولكى يعرف القارئ ما أقصده أضرب مثلًا بمقتطفات من الرواية، حيث تقول إحدى الشخصيات: «كلما أصبحنا أقرب إلى عهد الشيوعية بات الناس أسطع نورًا وأكثر تنوعًا وأصالة»!.. بهذه الأفكار كانت تنطق الإذاعة والتليفزيون وتصدر الصحف بما معناه أن الدولة تمضى بالمواطن إلى النور والأصالة! وفى مواجهة الأدب الدعائى كان الشعب الروسى يطلق النكات مشبعة بالإشارة إلى الهوة الشاسعة بين الدعاية والحقيقة فيقول: «ذهب مواطن إلى مستشفى وطلب أن يفحصه طبيب أذن وعيون، فقالوا له لا يوجد مثل هذا الاختصاص (أذن وعيون)، يوجد طبيب أذن وطبيب عيون. قال: لكن حالتى تحتاج إلى طبيب يجمع الاختصاصين، لأننى أسمع شيئًا وأرى شيئًا آخر تمامًا»! وانظر قول الروائى على لسان إحدى الشخصيات: «نحن المواطنين السوفيت فى صلة تبعية إلى بعضنا البعض، ولا يحق لنا مطلقًا ولا فى أى ظروف أن نشعر بأننا مستقلون عن بعض»! أو قوله: «إن كرامة الإنسان السوفيتى متناسبة مع قدر العمل الذى يبذله فى الإنشاءات الكبرى لبناء الشيوعية». وأخيرًا قوله: «عندما كان بالويف يخطب ويهتف فى ختام كلمته: عاش وطننا السوفيتى، كانت عيناه وكذا عيون الجميع تنز دمعًا فيما تهتز أعماقهم فرحًا». هذا ما كتبه الأديب.
أما فى الواقع فقد أفصحت النكات عن الحقيقة: «واحد يسأل صديقه: هل تقرأ صحفنا السوفيتية؟ أجابه: طبعًا وإلا من أين سأعرف أنى أحيا حياة سعيدة؟» لم يكن المواطن البسيط فقط يواجه هذا الأدب الدعائى، بل كانت قلة من الأدباء تسجل الحقيقة، كما فعل أندريه بلاتونوف وميخائيل بلجاكوف وزوشنكو وسولجينتسين وغيرهم ممن دفعوا ثمن الحقيقة، وظلت رواياته وقصصه ممنوعة من النشر وحبيسة أدراج مخازن اتحاد الكتاب ربع قرن كاملًا. بطبيعة الحال لا شىء يمنع الأدب من تناول تجربة بناء سد على نهر أو تشييد محطة كهربائية، لأن كل تجربة قد تكون مادة أدبية، لكن المشكلة تبرز حين يقوم الكاتب بتناول تلك التجارب بروح الدعاية لنظام حكم وبعيدًا عن هموم البشر فى الواقع فقط من أجل أن يحوز على «جوائز الدولة» كما جاء فى التعريف بـ«فاديم كوجيفنيكوف». وعلى الصعيد الآخر فإن الأدب الدعائى لا يقتصر على الدعاية لنظام حكم، أو دولة، إنه فى أحيان غير قليلة يكون أدبًا ثوريًا لكن دعائى فى الجوهر، وقد حفل شعر العامية بالنماذج الداعية إلى الثورة زمن مبارك، ولكن قراءة هادئة لتلك النماذج ستكشف عن أن كل ذلك أدب دعائى، صارخ بالفكرة، والهدف، بعيدًا عن روح ووظيفة الأدب المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالحقيقة التى لا يمكن طمرها بجبال من الدعاية. وفى سبيل ذلك تعرض أدباء كثيرون للنفى والسجن زمن السلطة السوفيتية، ومصادرة أعمالهم فى أمريكا وفى الصين وفى غيرهما، لكن الكاتب يظل يعشق بستان الحقيقة الذى بداخله، والذى يجعله ينأى بنفسه عن الدعاية وتجميل الهموم، لأنه يعرف تمام المعرفة أن الأدب بشكل ما هو الحقيقة، وكل كتابة أدبية تتجاهل ذلك تصبح باهتة وشاحبة، وسرعان ما تذبل، لأنها لا ترتوى من نبع الإبداع، ومن أجل رشفة من ذلك النبع ستجد أن الكاتب مستعد لتحمل أى مشقة، هذا قدره وهذا دوره، وهذا ما يبقى للناس والفن.